12:30 مساءً / 4 سبتمبر، 2025
آخر الاخبار

الحوكمة الذكية كأداة مقاومة فلسطينية : بين التكنولوجيا والسيادة ، بقلم : د. عمر السلخي

الحوكمة الذكية كأداة مقاومة فلسطينية: بين التكنولوجيا والسيادة ، بقلم : د. عمر السلخي


من البيروقراطية إلى الذكاء المؤسسي

العالم اليوم يقف على أعتاب مرحلة جديدة من التحول في إدارة المؤسسات، حيث لم تعد البيروقراطية التقليدية قادرة على مواكبة تحديات العصر. لقد جاءت الرقمنة والحوكمة الذكية كأدوات لإعادة صياغة مفهوم الإدارة العامة، لتصبح أكثر استجابة وشفافية وكفاءة. الحوكمة الذكية لا تعني فقط تحويل الورق إلى شاشات أو تزويد الموظفين بأجهزة حديثة، بل هي فلسفة قائمة على توظيف التكنولوجيا، والبيانات الضخمة، والذكاء الاصطناعي في صناعة القرار ورسم السياسات.

هذا التحول بات ضرورة وجودية، خاصة في البيئات الهشة والمعرضة للأزمات مثل فلسطين، حيث يشكّل الاحتلال والحصار والانقسام السياسي عقبات أمام التنمية. من هنا، يصبح تبنّي نموذج الحوكمة الذكية ليس خيارا تقنيا، بل شرطًا لبقاء المؤسسات وصمودها.

الحوكمة الذكية كرافعة للاستدامة المؤسسية

الاستدامة المؤسسية تعني أن تكون المؤسسة قادرة على البقاء، التطور، وتقديم خدماتها بشكل متواصل للأجيال القادمة. ولتحقيق ذلك، تحتاج المؤسسات إلى نظام حوكمة يضمن الاستخدام الأمثل للموارد، تقليل الهدر، وزيادة الكفاءة.

في السياق الفلسطيني، حيث تتعرض الموارد الطبيعية والمالية لضغوط هائلة، يمكن للحكومة المحلية أو الوزارات أن تستفيد من النظم الذكية لإدارة البيانات، ما يتيح قراءة دقيقة لاحتياجات المجتمع. على سبيل المثال:

وزارة الزراعة تستطيع من خلال قواعد بيانات رقمية متكاملة أن ترصد احتياجات المزارعين في مناطق “ج” المحاصرة بالاستيطان، وتوفر تدخلات سريعة تقلل الخسائر.

البلديات تستطيع عبر أنظمة ذكية لترشيد استهلاك المياه والكهرباء أن تواجه أزمات الشح والانقطاع المستمرة، خاصة في ظل سيطرة الاحتلال على مصادر المياه والطاقة.

إذن، الحوكمة الذكية لا تعزز فقط الأداء المؤسسي، بل تُسهم في خلق اقتصاد مقاوم قادر على مواجهة الضغوط الخارجية.

المرونة المؤسسية في مواجهة الأزمات

المرونة المؤسسية هي القدرة على التكيف مع الأزمات والاستمرار في تقديم الخدمات الأساسية رغم الصدمات. في فلسطين، تبرز الحاجة إلى هذه المرونة يوميًا: إغلاق المعابر، اقتحامات المستوطنين، هدم البنية التحتية، وقيود الاحتلال على حركة الأفراد والبضائع، كلها ظروف تفرض على المؤسسات الفلسطينية أن تبحث عن بدائل.

التحول نحو الحوكمة الذكية يفتح أفقًا واسعًا لتعزيز هذه المرونة:

الجامعات الفلسطينية التي طوّرت أنظمة للتعليم الإلكتروني خلال جائحة كورونا أثبتت قدرة عالية على التكيف، وأصبحت أكثر استعدادًا لمواجهة أي إغلاقات مستقبلية.

مؤسسات المجتمع المدني اعتمدت المنصات الرقمية لتقديم الدعم النفسي والاجتماعي للأسر في غزة والضفة، متجاوزة قيود الحركة والاتصالات.

القطاع الصحي يمكنه من خلال سجلات طبية إلكترونية متكاملة أن يضمن استمرارية تقديم الخدمات حتى في أوقات الأزمات الأمنية أو الكوارث الصحية.

بكلمات أخرى، الحوكمة الذكية تمنح المؤسسات الفلسطينية قدرة على “امتصاص الصدمات” ومواصلة عملها في بيئة غير مستقرة.

التحديات الفلسطينية أمام الحوكمة الذكية

لكن، هل الطريق معبّد بالكامل؟ الواقع يشير إلى أن التحول الذكي في فلسطين يواجه تحديات معقدة:

البنية التحتية الرقمية المحدودة: الاحتلال يفرض قيودًا مشددة على الطيف الترددي والاتصالات، ما يحرم الفلسطينيين من تقنيات الجيلين الرابع والخامس حتى وقت متأخر.

نقص التمويل والموارد: الاستثمار في الحوكمة الذكية يحتاج إلى رأس مال ضخم لتطوير البرمجيات، تدريب الكوادر، وحماية الأنظمة الإلكترونية.

غياب الإطار التشريعي الشامل: لا تزال القوانين الفلسطينية متأخرة عن تنظيم قضايا مثل حماية البيانات، الخصوصية، أو الأمن السيبراني.

التهديدات الأمنية والسيبرانية: الرقابة الإسرائيلية المتقدمة تجعل أي نظام رقمي عرضة للاختراق أو التتبع، ما يثير مخاوف جدية تتعلق بسيادة القرار الفلسطيني.

هذه التحديات لا تنفي الإمكانات، لكنها تذكّر بأن التحول يحتاج إلى إرادة سياسية، شراكات دولية، وحلول محلية مبتكرة.

نحو نموذج فلسطيني للتحول المؤسسي

لتجاوز هذه العقبات، لا بد من التفكير في نموذج فلسطيني خاص للحوكمة الذكية، يأخذ في الاعتبار خصوصية الواقع الاستعماري. هذا النموذج يمكن أن يقوم على:

الاستثمار في الكوادر البشرية: تدريب جيل جديد من الشباب على إدارة البيانات، الابتكار الرقمي، والأمن السيبراني.

تعزيز الشراكات المجتمعية: التعاون بين الجامعات، البلديات، والشركات الناشئة لتطوير حلول تكنولوجية محلية.

استخدام الطاقة المتجددة والشبكات المجتمعية: لتقليل الاعتماد على الشبكات التي يسيطر عليها الاحتلال.

التكامل مع المبادرات الدولية: استثمار الدعم المقدم من مؤسسات أممية وأوروبية لدعم البنية الرقمية والحوكمة الرشيدة.

بهذا، يمكن أن تصبح الحوكمة الذكية ليس فقط أداة إدارية، بل أيضًا جزءًا من مشروع التحرر الوطني وبناء السيادة الفلسطينية الرقمية.

الذكاء المؤسسي كأفق للتحرر

التحول المؤسسي في عصر الحوكمة الذكية ليس خيارًا تجميليًا ولا شعارًا دعائيًا. في فلسطين، هو ضرورة وطنية واستراتيجية لضمان استدامة المؤسسات وقدرتها على الصمود في وجه التحديات.

عندما تتمكن بلدية صغيرة في محافظة سلفيت من إدارة مواردها المائية عبر منصة ذكية تقلل الهدر وتكشف الاعتداءات الاستيطانية، وعندما يستطيع مزارع في الأغوار أن يحصل على خدمة تأمين زراعي رقمي يحمي موسمه من الخسارة، وعندما يتلقى طالب في غزة محاضراته عبر نظام تعليمي مفتوح رغم الحصار، فإننا نكون أمام صورة عملية للحوكمة الذكية كأداة مقاومة.

إنها ليست مجرد تقنيات، بل رؤية نحو مؤسسات مستدامة، مرنة، وقادرة على صناعة المستقبل رغم كل المعوقات. في زمن الأزمات، الذكاء المؤسسي ليس رفاهية، بل هو جوهر البقاء الفلسطيني.

شاهد أيضاً

وزيرة الخارجية والمغتربين بدولة فلسطين تلتقي نظيرها الكويتي

شفا – التقت وزيرة الخارجية والمغتربين بدولة فلسطين، د. فارسين اغابكيان شاهين، مع وزير خارجية …