12:16 مساءً / 21 أغسطس، 2025
آخر الاخبار

حنّا مينه … القبطان الذي أبى أن يرسو ، بقلم : رانية مرجية

حنّا مينه … القبطان الذي أبى أن يرسو ، بقلم : رانية مرجية

حنّا مينه… القبطان الذي أبى أن يرسو ، بقلم: رانية مرجية

في كل ذكرى لرحيل حنّا مينه، نستعيد صورة رجل لم يكتب البحر فقط، بل كتب الوجع الإنساني بأمواجه المتلاطمة. البحر عنده لم يكن مجرد فضاءٍ روائي، بل قدرٌ وجودي، ومعركة يومية، وسؤال فلسفي مفتوح: هل يولد الإنسان ليصارع مصيره، أم ليكتشف ذاته في مواجهة هذا المصير؟

من الفقر إلى الرواية

ولد حنّا مينه عام 1924 في لواء إسكندرون، وعاش طفولة قاسية شديدة الفقر. لم يعرف الاستقرار، بل عرف التشرد، إذ تنقل مع عائلته من مكان إلى آخر بحثًا عن لقمة العيش. عمل صبيًّا في الحلاقة، حمّالاً في المرفأ، ومياومًا في المهن البسيطة، قبل أن يجد طريقه إلى الصحافة والأدب. كانت الحياة قاسية، لكن هذه القسوة هي التي صقلت روحه، وجعلت منه شاهدًا صادقًا على معاناة الفقراء والكادحين. لقد عاش ما كتبه، وكتب ما عاشه، لذلك كان نصّه صادقًا كالموج، نقيًا كدمعة البحّارة، حادًا كالملح على الجراح.

الأدب كموقف ورسالة

لم يكن الأدب عند حنّا مينه لعبة جمالية، بل رسالة أخلاقية وإنسانية. كان يؤمن أن الكاتب لا يحق له أن يقف على الرصيف متفرجًا، بل عليه أن يشارك في المعركة، أن يكون صوته صدى لأصوات المقهورين. ومن هنا جاءت شخصياته: عامل المرفأ، البحّار، المرأة المهمّشة، الفقير الذي لا يملك إلا صبره. منحهم البطولة التي حُرموا منها في الواقع، ورفعهم إلى مصاف الرموز الإنسانية.

الأثر في الرواية العربية

غيّر حنّا مينه وجه الرواية العربية. كان رائد الواقعية الاجتماعية التي لا تكتفي بوصف الظاهر، بل تغوص في عمق الإنسان، في آلامه وأحلامه. في المصابيح الزرق، والياطر، والشمس في يوم غائم، وغير ذلك من الأعمال، رسم صورًا حيّة لطبقات مسحوقة، وجعل من أدبه مرآةً للمجتمع العربي في لحظات انكساره ونهوضه. علّم الأجيال من بعده أن الرواية ليست حكاية وحسب، بل شهادة على العصر، وصوت من لا صوت لهم.

الفلسفة والوجود في نصوصه

وراء هذا الانشغال بالواقعية الاجتماعية، كان هناك بُعد فلسفي عميق. كل مواجهة مع البحر عنده هي مواجهة مع المصير، وكل صراع مع الموج هو صراع مع العبث الكوني. لكنه لم يكن عبثًا يفضي إلى العدم، بل إلى الرجاء. شخصياته تقاوم، وإن كانت تعلم أن السفينة قد تتحطم في أي لحظة. وهنا تكمن فلسفته: القيمة ليست في الوصول، بل في مواصلة المحاولة. الحرية ليست محطة، بل فعل مقاومة لا ينتهي.

رحيل لا يطفئ الحضور

رحل حنّا مينه عام 2018، بعد أن ملأ المكتبة العربية بروايات تفوق الأربعين، لكن حضوره لا ينطفئ. فهو حاضر في كل نص يكتب عن الإنسان البسيط، في كل قلم يحاول أن يكون صادقًا مع الفقراء، وفي كل قارئ يجد نفسه في مواجهة مع موجة لا ترحم. لقد علّمنا أن السفن قد تغرق، لكن القبطان الحقيقي هو الذي يظلّ متمسكًا بالرحلة حتى آخر نفس.

سلام عليك يا ابن المرفأ، يا من جعلت من الجوع ملحمة، ومن التعب بطولة، ومن البحر كتابًا لا يُطوى. سلام عليك أيها القبطان الذي أبى أن يرسو إلا في وجداننا

شاهد أيضاً

النضال الشعبي في الذكرى 56 لإحراق المسجد الاقصى : حكومة الاحتلال تعيد رسم القدس من جديد وتعمل على بناء مشهد استيطاني جديد

شفا – قالت جبهة النضال الشعبي الفلسطيني يصادف اليوم الخميس الحادي والعشرين من آب/ أغسطس، …