
قراءة لقصيدة “طيبة لا يبتلعها الزمن” للشاعرة رانية مرجية ، بقلم : طه دخل الله عبد الرحمن
القصيدة: طيبة لا يبتلعها الزمن
سقطت الأقنعةُ جميعُها أمام بصيرتي،
فتهاوتْ كأبراجٍ من وهمٍ في مهبِّ الريح.
حينها أدركتُ أنّ الله أهداني سرًّا،
روحًا لا تشبه الأرواح،
وشعلةً تتوهّج في العتمة،
وتدلّني إلى طريق التفرّد.
لم أندم يومًا على طيبتي،
فهي زمزمُ قلبي،
ونبعُ صفائي،
ومحرابُ صمتي حين يعلو صخبُ الدنيا.
لن أندم عليها أبدًا،
ففيها سرّ بقائي،
وفيها خبزُ روحي،
وفيها ملامحُ إنسانيتي التي لا تُشترى.
وأما الذين عجزوا عن اجتياز امتحانِ الحقيقة،
فقد كانوا سحابةً عابرة،
غشّت سمائي للحظة،
ثم تلاشت،
وابتلعها الأفقُ كأن لم تكن.
وأنا…
أمضي بخطى العارفين،
أحمل نوري كجذوةٍ في لياليّ الطويلة،
وأرتّل في سرّي:
ما خاب قلبٌ وهبه الله الطيبة،
وما ضلَّ دربٌ أضاءه الإيمان.
في قصيدة “طيبة لا يبتلعها الزمن”، تُقدّم الشاعرة رانية مرجية رؤيةً وجوديةً عميقةً تُمزج بين الصفاء الروحيّ والإيمان بالذات، مُتخذةً من “الطيبة” مَتنفّسًا للخلاص ومَحرابًا تُعلَن فيه أسرارُ البقاء. القصيدةُ لوحةٌ شعريّةٌ تتعانق فيها الصورُ البيانيّةُ مع الرمزيةِ الصوفيّة، لتُرسي دعائمَ عالمٍ داخليٍّ تُشرق فيه الطيبةُ شموسًا لا تُغالبها ظُلماتُ الزمن أو خيباتُ البشر.
تفكيك الأقنعة وسقوط الأوهام:
تبدأ القصيدةُ بانزياحٍ دراميٍّ قويّ: “سقطت الأقنعةُ جميعُها أمام بصيرتي”، حيثُ يُصبح السقوطُ فعلَ تحريرٍ يُزيحُ زيفَ المظاهر، ويُحوّلُها إلى “أبراجٍ من وهمٍ في مهبِّ الريح”. هنا، تُحاكي الشاعرةُ سقوطَ الحضاراتِ الزائفة، لكنّها تختزلُه في سقوطِ الأكاذيبِ الفردية، ليكتشفَ المتكلّمُ أنّ الحقيقةَ وَحْدَها تستحقُّ البقاء.
الطيبةُ: السرُّ الأزليُّ والهُويةُ المقدَّسة:
يُعبّر المقطع التالي عن الاكتشاف الذاتيّ كهديةٍ إلهية: “أدركتُ أنّ الله أهداني سرًّا”، حيثُ تتحوّلُ الطيبةُ إلى ماءِ زمزمَ روحيّ “زمزمُ قلبي” ونبعٍ لا ينضبُ من السكينة. الانزياحُ الدينيُّ هنا “محرابُ صمتي” يُضفي على الطيبةِ طابعًا قدسيًّا، بينما التشبيهُ بالخبزِ “خبزُ روحي” يجعلها ضرورةً حياتيةً لا تقلُّ عن الطعام.
صورةُ الآخرين: السحابةُ العابرةُ والأفقُ النَّهم:
يُقابل الشاعرةُ بين ثباتِ طيبتِها وزوالِ مَنْ خانوا الحقيقةَ، فتصفُهم بـ “سحابةٍ عابرةٍ غشّت سمائي”، ثمّ يُختزلُ وجودُهم في محوِ الأفقِ “كأن لم تكن”. الصورةُ تُجسّدُ انتصارَ الأصيلِ على العابر، وتُبرزُ قوةَ الذاتِ التي ترفضُ أن تُقاسَ بمعاييرِ الواهمين.
الخصائص الفنية:
اللغة: مُترعةٌ بالاستعاراتِ الدينيةِ والطبيعيةِ (الزمزم، السحابة، الجذوة).
الإيقاع: تموُّجٌ بين الطويلِ والقصيرِ، كأنّه يعكسُ صعودَ الروحِ وهبوطَ الأوهام.
الرمزية: الطيبةُ نورٌ وإيمانٌ، والزمنُ كائنٌ نهمٌ لا يقوى على ابتلاعِ ما هو إلهيٌّ في الإنسان.
الخاتمة: خطى العارفين والنورُ الداخليُّ:
تنتهي القصيدةُ باستعادةِ الصوفيِّ الذي *”يحملُ نورَه كجذوةٍ في الليالي الطويلة”، حيثُ يصيرُ الإيمانُ دليلًا “ما ضلَّ دربٌ أضاءه الإيمان”. التكرارُ في “لن أندم” يُشكّلُ إعلانًا عن رفضِ المساومة، بينما التضمينُ الدينيُّ “ما خاب قلبٌ وهبه الله الطيبة” يمنحُ النصَّ حكمةً خالدةً تُذكّرُ بالموروثِ الجلاليِّ إشارةً إلى جوهرِ الحكمةِ العَطائِيِةِ عند حكم ابن عطاء الله السكندريّ.
هذه القصيدةُ ليست دفاعًا عن الطيبةِ فحسب، بل هي تأسيسٌ لكونٍ موازٍ تُصانُ فيه الإنسانيةُ من الانزياحاتِ المادية. الشاعرةُ ترفعُ الطيبةَ من فضيلةٍ أخلاقيةٍ إلى فلسفة وجود، تُذكّرنا بأنّ ما يُهديه اللهُ للإنسانِ كالروحِ الفريدةِ أو الشعلةِ الداخلية هو وحده الكنزُ الذي لا يُسلب.
طه دخل الله عبد الرحمن – البعنه – الجليل