
التراث الفلسطيني… ذاكرة أمة ومعركة بقاء ، بقلم : د. وليد العريض
هناك معارك تُخاض بالسلاح، وأخرى تُخاض بالكلمة… لكن أصعبها تلك التي تُخاض بالذاكرة.
حين تُسرق الأرض، يمكن أن تحشد الجيوش لاستعادتها. أما حين تُسرق الذاكرة، فالمعركة أدقّ، والجرح أعمق، والخصم أشدّ مكرًا.
التراث الفلسطيني ليس صورًا قديمة ولا أواني فخارية تزين متحفًا بعيدًا، بل هو نبض الأجيال المتعاقبة، وروح وطن يختبئ في حجر القدس، وفي غرزة تطريز على ثوب فلاحة من الجليل، وفي مفتاح صدئ يحمله لاجئ من حيفا أو يافا. هو حكاية أمة قاومت النسيان، وحافظت على ملامحها رغم محاولات الطمس والتزييف.
باريس… حيث يقف المتحف الفلسطيني كحصن ثقافي
في قلب أوروبا، وتحديدًا في باريس، وقف “المتحف الفلسطيني” شاهدًا على أن المعركة الثقافية لا تقل أهمية عن المعركة على الأرض. هناك، وبمبادرة من مؤسسة الإبداع الفلسطيني الدولية، نظم ملتقى التراث والهوية ورشة عمل التأمت فيه الندوة العلمية “المتحف الفلسطيني في باريس… صوت التراث في الغربة”، لتفتتح سلسلة من اللقاءات التي تعيد رسم ملامح معركة الذاكرة.
افتتح الندوة رئيسة الملتقى د. سارة محمد الشماس وقاد الحديث د. متحف عايد الترابين، الذي ورث الحلم عن جدته، الطبيبة الفلسطينية خريجة جامعة إسطنبول قبل أكثر من قرن، تلك التي غنّت للوطن متحدية الموت. عرض الترابين رحلة الكفاح الطويلة لحماية التراث، من ساحات المعارض العالمية إلى أروقة المنظمات الدولية، في مواجهة محاولات الاحتلال لطمس الحكاية الفلسطينية من كتب التاريخ ومن الوجدان الإنساني.
أفكار تنبض بالمقاومة
لم يكن النقاش بكاءً على الأطلال، بل كان ورشة مقاومة:
توثيق كل قطعة تراثية، وتحويلها إلى شاهد على الهوية.
إصدار نشرات بلغات العالم تكسر العزلة الثقافية.
إعداد موسوعة تحيط بالمتاحف الفلسطينية في الوطن والشتات، كحائط صدّ أمام النسيان.
القانون… درع الذاكرة
القضية ليست عاطفة فحسب، بل حق منصوص عليه في اتفاقية لاهاي لعام 1954 التي تجرّم سرقة الممتلكات الثقافية زمن الحرب وتوجب إعادتها إلى أصحابها. التراث الفلسطيني ملكٌ لشعبه، واحتجازه خارج سياقه جريمة ثقافية تستدعي موقفًا دوليًا حازمًا.
أصوات الحضور… وجوه الذاكرة
كان المشهد غنيًا بالأسماء المضيئة: سعادة السفير الفلسطيني لمنظمة اليونسكو في فرنسا د. صفوت بريغيث، ورئيس الهيئة الإدارية لمؤسسة الإبداع الفلسطيني الدولية في أوروبا د. وحيد أحمد، والإعلامية شيرين الدجاني التي أدارت الحوار. ومن بين المتحدثين د. وليد العريض أستاذ التاريخ في جامعة اليرموك، و ثلة من العلماء من المغرب وتونس وإسبانيا اللذين قدّموا رؤى تعزز حماية التراث وتفعيله في المنابر الدولية.
جالياتنا… جسر الذاكرة إلى العالم
أثبتت الندوة أن للجاليات الفلسطينية في أوروبا دورًا يتجاوز الحنين، فهي قادرة على أن تكون جسورًا تربط الذاكرة بالمؤسسات الثقافية العالمية، وتفتح الأبواب أمام مشروعات التوثيق والاسترداد، لتظل فلسطين حاضرة في العقول كحضارة وهوية، لا كقضية نزاع فقط.
الختام… معركة لا تنتهي
الدفاع عن التراث الفلسطيني هو دفاع عن الروح، عن الماضي الذي نحب أن نورّثه، وعن المستقبل الذي نريد أن نحميه. فكل حجر يُستعاد، وكل صورة تُحفظ، وكل قصة تُروى، هي طلقة وعي في صدر النسيان. الهوية التي نصونها اليوم… هي الوطن الذي سنقدّمه غدًا للأجيال القادمة.