
“النهر المتصحِّر” مرثيّة لوطن مصلوب على ضفاف الخيبة ، قراءة وجدانية ، نفسية ، جمالية في قصيدة كاظم حسن سعيد ، بقلم : رانية مرجية
في زمنٍ تتكاثر فيه الأنهار المسمومة وتضمحلُّ الجداول الرقراقة، تأتينا قصيدة “النهر المتصحر” للشاعر العراقي كاظم حسن سعيد كصرخة وجد، وكأنين ذاكرة تجلد نفسها قبل أن تُدين الغزاة والجلادين. القصيدة ليست مجرد نص، بل هي مأتم لغوي، حيث يتحوّل النهر من رمزٍ للحياة إلى شاهدٍ على الموت، من مجرى للعذوبة إلى مصبّ للألم، من حضن الوطن إلى قاع السبي والخذلان.
تعوي الجماجم… حين يتحوّل الوطن إلى جمجمة
يفتتح الشاعر نصّه بنداء جنائزي:
“تعوي الجماجم هل رأيت حجارة / ذئبية رنت لغير المعول”
فلا بدايات ناعمة هنا، ولا استعارات حالمة. بل نُلقى فورًا في قلب العدم، حيث الجمجمة تعوي، والحجر يُسمَع، والمعول غائب. وكأننا في أرضٍ مهجورة نادت أهلها، فلم يجيبوا. هنا الخيبة وطنية، لكنها أيضًا نفسية وجودية.
وفي قوله:
“وتصحر النهر المؤبد سيله / إن مسه الزيف المعمق ينزل”
تصبح الصورة الشعرية إعلان موت روحي، فالنهر – هذا الكائن الأبدي – ينضب لا لعجزٍ طبيعي، بل لأن “الزيف” تسرّب إليه. كأن الشاعر يعيد تعريف الخيانة: ليست خيانة السلاح، بل خيانة القيم، خيانة الذات.
حين يُصبح النهر بطاقة هوية
“وها أنت مرسوم في بطاقتي الشخصية مشكّلاً هويتي وجيناتي وسمرتي”
في بيت شعري من العيار الوجودي، يخلع الشاعر عن النهر صفته المائية ويمنحه معنى بيولوجيًا: النهر هو الجين، السحنة، الشخصية، الأصول. لكنه سرعان ما ينقلب على هذا الرمز حين يصرّح بمرارة:
“ولكنك أصبتني بالوباء… وحجبت عني جمال الفجر”
إنها مرارة مَن أحب وطنه حتى الهلاك، فإذا بالوطن ينقلب عليه. أيُّ صراعٍ نفسيّ هذا الذي نحبّ فيه من يُميتُنا؟! وما أشبه هذا البيت بأحوال شعوبنا التي لا تكفّ عن الدفاع عن أوطانٍ هجرتهم، أو حُكّامٍ صمّوا آذانهم.
“أنا المشرد قد حسبتك منزلي”
بيت يكاد يختصر المأساة بأكملها:
“وأنا المشرد قد حسبتك منزلي”
هذه ذروة الخيبة النفسية، حين يصبح الحُلم هو الخدعة، ويصبح النهر – الذي ظنناه ملاذًا – مصدرَ الضياع.
النهر كخزان جماعي للذاكرة
في الجزء الثاني من القصيدة، يأخذنا الشاعر في سردٍ شعري كثيف، كأنه شريط وثائقي طويل من الوجع والحنين والتاريخ والمفارقات:
من الطلاب ودراجات الأطفال، إلى الراقصات والأمهات الثكالى، مرورًا بجنود الهنود، والحجاج، والأرمنيات، والبسطاء الذين ظنّوا أنهم في “فسحة” فانتهوا في “مأتم”.
كل ما مرّ فوق النهر، سقط فيه أو ترك ظلاله عليه. لا يتكلم النهر، لكن الشاعر يسمعه، يقرأه، يشمّه، يتذكّره:
“اشم أعماقك وأقرؤك…”
النهر صار كتابًا مفتوحًا، دفترًا لتاريخ الخيبات المسكوت عنها، وعار الطقوس المقدسة حين تختلط بالدماء.
تأريخ الهزائم في جغرافيا الماء
النص يكشف البعد الرمزي – الجمالي للنهر:
لم يعد ماءً يسقي، بل قبرًا يحوي كل شيء: من دماء الأطفال، إلى طقوس الصابئة، إلى خناجر الخونة، إلى صرخات الضحايا.
وهنا يكمن الجمال المأساوي للنص: ما من شيءٍ غريب على النهر… لأنه شهد كل شيء، لكنه عاجز عن ردّ أي شيء.
هل نملك الشجاعة لحضور جنازة النهر؟
يختم الشاعر نداءه بفجيعة موجعة:
“لا تتركوني وحيدًا أؤبّنه وألقي في حضرته قصيدة رثاء”
إنه لا يطلب مقعدًا في جنة الشعر، بل يدعو لصحوةٍ جماعية، أن نعود جميعًا لنرثي أنفسنا، لأن النهر لا يموت وحده، بل يأخذ معه ما تبقى فينا من الحياة.
خاتمة: القصيدة التي تستحق أن تُدرّس
قصيدة “النهر المتصحر” ليست فقط نصًا شعريًا، بل وثيقة أدبية، بمثابة نشيد حدادٍ طويل لوطنٍ يُذبَح كل يوم، دون أن نمتلك حتى دموع الرثاء.
تحية للشاعر العراقي كاظم حسن سعيد، لأنه لم يكتب، بل نزف، وجعل من النهر “نصًا خالداً عن الفقد والخذلان والهوية الممسوخة”.
رانية مرجية
كاتبة وصحافية فلسطينية
الرملة – أغسطس 2025