
المرأة التي تُشبه الحقول ، قراءة وجدانية في نصّ نهاية كنعان عرموش ، بقلم: رانية مرجية
في نصها الباذخ “حين تواعدنا… وتم اللقاء”، تأخذنا الكاتبة نهاية كنعان عرموش من طمرة – الجليل، إلى عالم يتداخل فيه الحب مع الطبيعة، وتتحد فيه الأنثى مع الأرض، حتى لا نعرف: أهي المرأة تكتب عن الشجر، أم أن الأشجار تنطق بأوجاع النساء؟
نصّها ليس مجرّد قصة حب؛ بل هو نشيد للانتظار الجميل، ورسم حسيّ لجغرافيا العاطفة، ومرآة لذات أنثوية تحترف التوق والدهشة.
“تغمرنا السعادة حينما نسمع: اشتقت إليكِ”
منذ الجملة الأولى، تعلن الكاتبة أننا أمام نصّ أنثوي بامتياز، أنثوي لا من حيث الجندر فقط، بل من حيث الإحساس العميق بالتفاصيل، وانسياح الذات في الأشياء من حولها.
المرأة هنا لا تدخل الموعد صدفة، بل تتعثر “بقصد”؛ وكأنها تقول: “نحن النساء نعرف فنّ الاشتياق أكثر مما يعرفه الرجال”، ولذّة اللقاء تتعاظم حين تسبقه لحظة ترقّب طويلة.
هي لا تهرول للحبيب، بل تسير الهوينى، كما لو كانت تختبر رجفة قلبه في كل خطوة. تهب حصانها حق الاستراحة بين أكوام العشب، لكنها في الحقيقة تُمهل الوقت ليصنع انتظاره، ويُخصّب الشوق.
الطبيعة ليست ديكورًا بل شريكة في الحب
ما يُدهشك في النص، أن الطبيعة لا تحضر كخلفية للمشهد، بل تتحوّل إلى فاعل وجداني.
فالأشجار “تحبو”، والندى “يسكن خدود الورق”، والعصافير “تغارِدُ احتفاءً باللقاء”، وكأن الكاتبة تُقيم قدّاسًا صباحيًّا صامتًا في معبد الغابة، ويكون الحب هو الصلاة الوحيدة فيه.
ليس عبثًا أن تقول الكاتبة:
“الحب عند الأطيار لا يشبه الحب عندنا…”
فهذه المقارنة تفتح الباب على تأمل فلسفي عميق: هل نحن من شوّهنا الحب أم أن الطيور وحدها من فهمت معناه الطاهر؟ الطيور لا تعرف الخطيئة، لا تملك قواميسًا للتملك أو الخيانة، ولا تطاردها شهوة السيطرة. وهكذا، تجعل الكاتبة القارئ يعيد النظر في مفرداته اليومية عن الحب.
لغة الملوك في العشق
في مشهدٍ من أصفى مشاهد النص، تكتب نهاية كنعان:
“لغة الملوك في العشق، مختلفة…”
وتصفها بأنها ذهب خالص مصقول من القيم العريقة.
هنا يتجاوز النص بُعده الرومانسي، ليقدّم رؤية أخلاقية للحب النبيل.
إنّه حب يتأسّس على العدل، والرحمة، والوفاء، ومخافة الله – كما تعلّمته الراوية من والدة الحبيب، تلك التي لا تحضر كحماة محتملة بل كمعلمة وأم روحية، أحبتها الكاتبة من “جوهرة لبابة قلبها”.
في هذا البوح، يتحوّل الحب من علاقة بين اثنين إلى حالة وجودية كاملة، تنتمي للأرض، وتتغذى من الصنوبر والندى، وتطير على تغاريد العصافير، وتتطهّر بماء النهر.
خاتمة
هذا النص ليس مجرد حكاية غرامية عابرة، بل هو قصيدة نثر متنكرة في رداء نثري، نصٌّ يفيض بالحسّ والشفافية، ويحتفل بجمال الانتظار، ونُبل الحب، ودهشة اللقاء.
نهاية كنعان عرموش ترسم بالكلمات لوحة عاشقة، تسكنها الطبيعة وتفيض منها الأنثى النقية، فتجعلنا نؤمن – ولو للحظة – أن الحب، حين يتطهّر، يُصبح صلاة.
وأن المرأة، حين تكتب نفسها بهذا الصدق، تصير شجرة زيتونٍ لا تهزّها ريح، بل تنحني لها الفصول إجلالًا