
الشفاء الثقافي حين يُصبح الفنُّ وصفةً للمقاومة والكتابُ طريقًا للخلاص، قراءة في رسالة د. سارة الشماس حول “المستشفى الثقافي” ، بقلم : د. وليد العريض
في زمنٍ تتوالد فيه الجراح العربي وتضيق الأرواح بأوجاع لا تشخَصها أجهزة الطب التقليدي، تنبثق رسالة د. سارة الشماس حول “المستشفى الثقافي” بوصفها صيغة إنسانية جديدة لعلاج الجسد والروح معًا، في آنٍ واحد.
هي ليست تجربةً عابرة في سياق الطب المجتمعي، بل محاولة عميقة لإعادة تعريف الشفاء ذاته، لا بوصفه خلوًّا من المرض فحسب، بل استردادًا للكرامة، وللقُدرة على الحلم في وسط العتمة.
الفنّ دواء والمستشفى مقاومة
في المستشفى الثقافي الذي تقترحه الرسالة، لا تُقاس نبضات الحياة فقط بأجهزة المراقبة، بل بضحكة طفل أمام لوحة وبعين مريض تتأمل قصيدةً أو كتابًا وبعزفٍ حيٍّ يطرد رائحة الموت من الأجنحة البيضاء.
هكذا يُصبح الطبّ فعل مقاومة وتُصبح المداواة مشاركة وجدانية بين المريض والمجتمع، في مواجهة الحزن المزمن الذي يصيب أوطانًا بكاملها.
هذه الرؤية تتقاطع عميقًا مع مشروعي البحثي الشخصي الممتد منذ سنوات والذي خضته في أكثر من ميدان بحثي وثقافي، أؤمن فيه بأن الثقافة – بكل تجلياتها – ليست ترفًا، بل ضرورة وجودية في حياة الشعوب المقهورة.
الفنّ في مخيّمات اللجوء… توثيق ومقاومة
لقد كان لي الشرف أن أعدّ دراسة علمية مشتركة مع الزميلة د. مريم عفانة حول:
فن الكاريكاتير في توثيق معاناة اللاجئين الفلسطينيين ودوره في التخفيف النفسي ومقاومة النسيان، حاولنا من خلالها أن نثبت كيف أن رسومًا بسيطة يمكن أن تُعيد تشكيل الوعي وأن ترسم على وجه الخيمة ملامح وطن غائب، وتجعل من الضحك صرخة وُجدانية ضد القهر.
كما نشرتُ لنا – في مركز اللاجئين بجامعة اليرموك- في سياقٍ موازٍ دراسة متخصصة في حياة اللاجئين السوريين وغيرهم من اللاجئين العرب، ركّزت فيها على سبل التخفيف من معاناتهم عبر الأدب، والفن التعبيري والبرامج التفاعلية والمسرح المجتمعي والقصص الشفوية،كمداخل غير تقليدية للشفاء النفسي في بيئات الطوارئ.
لوحاتُ غزة والذاكرة التي لا تموت
في كل مرةٍ أكتب فيها عن فلسطين، كانت لوحات صديقي الفنان والمهندس محمد الدغليس ترافقني كخريطة جمالية للمأساة. استخدمتها مرارًا كأداة فنية توثق المعاناة وتجعل من اللون بوصلةً لاستعادة الذاكرة.
فيها رسمت غزة بدمها ورمادها واللاجئين في عباءة الخبز اليابس والأمهات في وقفة صمت أمام الأبواب المغلقة تمامًا كما تحاول رسالة د. الشماس أن تفتح بابًا آخر نحو الشفاء، ليس بالدواء فقط، بل بالمعنى، والاحتواء، والانتماء.
رسالة الشماس نحو ثقافة الاستشفاء العربي
إن مقالة د. الشماس لا تخصّ بيئة طبية بعينها، بل تنتمي إلى وعي عربي شامل بأهمية الاستشفاء الثقافي كمفهوم حضاري.
فإذا أردنا أن نواجه الاحتلال، والقهر واللجوء والانكسار، لا بد أن ننتج مراكز ومؤسسات تعالج الإنسان العربي ككلٍّ: جسدًا وروحًا وكرامةً.
لأن الكرامة هي أول دواء والهوية أول جهاز مناعيّ في جسم الأمم.
وختاما فإن الكلمة شفاء والقصيدة مصل
الفن ليس رفاهية، بل ضرورة في مواجهة الجوع الروحي.
والثقافة ليست زينةً على هامش المعاناة، بل أداة مقاومة في صلبها.
ورسالة د. الشماس تذكّرنا بأن من لا تداويه الحبوب، قد تشفيه قصيدة ومن لا تحتمله غرفة الطوارئ قد يحتويه كتاب ومن لا يتكلم في العيادة، قد يهمس لظلّ لوحة.
ومضة شعرية: في صيدلية القصيدة
في صيدلية القصيدةِ
لا وصفةَ غيرَ الحنينِ
لا دواءَ إلا حبرَ عيونِكِ
ولا مَصلَ إلا خيالَ وطنٍ
يُرممُ أنقاضَه بالحكاياتِ
- – د. وليد العريض – مؤرخ، أديب، شاعر، وكاتب صحفي – أستاذ التاريخ العثماني العربي – باحث في فنون المقاومة الثقافية