11:32 مساءً / 25 يوليو، 2025
آخر الاخبار

أعراس الجوع والبذخ ، قراءة وجدانية فلسفية في قصيدة “أعراس” لجمال أسدي ، بقلم: رانية مرجية

أعراس الجوع والبذخ ، قراءة وجدانية فلسفية في قصيدة “أعراس” لجمال أسدي ، بقلم: رانية مرجية

في قصيدة “أعراس”، لا نحتفل، بل ننوح. لا نرقص، بل نرتجف من وقع هذا الانقسام الأخلاقي الحاد الذي يفلق العالم إلى نصفين: نصف يزدرد رغيف الحياة بنهمٍ دون شكر، ونصفٌ يمدّ كفه المتآكلة من القهر نحو فتات لا يأتي. يكتب الشاعر جمال أسدي بمداد القلب، لا بالحبر، قصيدة تتشح بالسواد الوجودي، وتصرخ في وجه عالمٍ أخرس، أخرسه الجشع والترف والعمى الطبقي.

منذ المطلع:

“في ليلٍ أخرسَ / يبتلعُ الأنفاس”
تدخل القصيدة في نَفَسها الأول عالماً مغلقاً، مشلولاً، تنعدم فيه الحواس. الليل هنا ليس رمزاً رومانسياً، بل هو تجسيد لزمن العدم، زمن الخرس الجماعي تجاه الفقر والظلم. الليل ليس وقتاً للراحة، بل لابتلاع الأنفاس، وكأن الحياة نفسها تُخنق مع كل شهيق لا يسمعه أحد.

ثم يأتينا النصل:

“جوعٌ كافرٌ، / لا يعرفُ رحمةً ولا مقياس”
الجوع لا يوصف هنا كمشكلة اجتماعية أو حتى كحالة طارئة، بل كـ”كافر” – لفظ يحمل في طياته بعدًا دينياً وأخلاقياً. هذا الجوع خرج من دائرة الحاجة إلى دائرة الجريمة. هو لا يرحم، لا يقيس، لا يميز، يرمي الأطفال في “غياهب الأرماس” – والرمز هنا عميق، فالأرماس ليست مجرد قبور، بل قبور بلا شواهد، بلا أسماء، قبور منسية تشبه عيون الأطفال “الذابلة كالقفر”، التي تحولت إلى مرايا للموت البطيء.

القصيدة لا تكتفي برثاء الفقراء، بل تكشف عن “الضفة الأخرى” من الجريمة:

“في قصورٍ تتراقصُ فيها الأضواء / نغرقُ في بحرِ المتعةِ”
هنا يتحول النص إلى مرآة دامغة تنعكس عليها صورة الطغيان الاستهلاكي، صورة الإنسان المتخم الذي يلهو على أنين البؤساء. ننتقل من عالم الهياكل العظمية إلى عالم الأجساد المتخمة والضمائر الفارغة. الضمير هنا يُشبه آلة عاطلة عن العمل. “صمٌّ، عميٌّ، قلوبُنا أحجارٌ صماء” – ثلاثية صادمة تُظهر كيف يُمكن للترف أن يُفرغ الإنسان من إنسانيته.

ثم يُدخلنا الشاعر في المشهد الأكثر قسوة في القصيدة، حين يجعلنا نرى:

“ذاكَ الشيخ الجائعُ / يقتاتُ من نُخامةِ الأرضِ”
هنا تتجلّى الذروة الرمزية والجمالية للنص. الجوع لا يُضطر الشيخ للأكل فحسب، بل للأكل من النُخامة – وهي أقذر ما يمكن للإنسان لفظه. وهذه الصورة الكريهة تُقابلها صورة “الطفل المدلل” الذي يعيش في “عالمٍ من البذخِ الحالم”. التباين الصارخ بين الطفلين – أحدهما شيخ مقهور، والآخر طفل مدلل – يُظهر الجريمة الأخلاقية في أبهى صورها: إنكار الآخر، محو وجوده، ونزع إنسانيته.

لكن جمال أسدي لا يكتفي بالسرد. في النصف الأخير من القصيدة، يبدأ التمرّد:

“لمّا يبتسمُ المسكينُ لكسرةِ خبزٍ يابسةٍ، / نرمقهُ بسخريةٍ”
تتحول القصيدة إلى لطمٍ أخلاقي. إنها تسائلنا، تكشف قسوتنا، وجبننا، واستهتارنا. “نُبذرُ النعمَ بلا حساب، / وكأنَّ الدنيا ملكٌ لنا وحدنا” – هذا السطر يلخّص الهاوية التي نهوي إليها باسم “التحضر”. إنها حضارة اللاشكر، حضارة الشبع النرجسي.

وفي ختامها، تأتي القفلة كناقوس إنذار:

“فلتشتعلْ نارُ الرحمة، / ولنحرقْ غشاءَ الغفلةِ السوداء”
لا يختم الشاعر نصّه بيأس، بل برجاءٍ مشتعلٍ بنار الندم. يريدنا أن نرى، أن نشعر، أن نعود بشراً. فالفارق لم يعد ماديًا فقط، بل روحيًا، أخلاقيًا، وجوديًا. إنها دعوة حارقة للاستيقاظ من سبات الضمير.

إن “أعراس” ليست قصيدة مناسَبة للاحتفاء، بل هي مرثية للحياة ذاتها في ظل اللاعدالة. أعراسها ليست للفرح، بل للنحيب. لغتها متماسكة، صورها صادمة، موسيقاها تنساب كصوت قلب يبكي بصمت. هذا النص ليس من الشعر العابر، بل من النصوص التي تُشرّح الروح البشرية، وتكشف لنا كم ابتعدنا عن فطرتنا الأولى.

قصيدة “أعراس” هي لطمية الشعر في وجه هذا العصر الأرعن.

شاهد أيضاً

برصاص مستوطن

إصابة طفل برصاص مستوطن في قرية المغير شمال شرق رام الله

شفا – أصيب طفل برصاص مستوطن، مساء اليوم الجمعة، في قرية المغير، شمال شرق رام …