
الاستيطان وإرهاب المستوطنين في الضفة الغربية ، غضّ طرف أم استراتيجية إحلاليه؟ بقلم : سالي أبو عياش
(تحليل في بنية الارهاب الاستيطاني في الضفة الغربية، ودوره الوظيفي في المشروع الإحلالي الإسرائيلي)
شهدت الضفة الغربية خلال الأشهر الأخيرة تصاعداً في الارهاب الاستيطاني، لم يعد يقتصر على اعتداءات فردية، بل أخذ طابعاً منظماً وممنهجاً، يُمارَس كسلوك جماعي تدعمه مؤسسات الاحتلال ضمنياً. ففي قرى مثل سوسيا وخلة الضبع المهددة بالمصادرة في مدينة يطا في جنوب الضفة الغربية وترمسعيا وكفر مالك التب اقتحمها المستوطنون وعاثوا فساداً بالأرض والحجر والبشر في مدينة رام الله وسط الضفة الغربية، وبيت فوريك وبيت دجن التي قام المستوطنون بإغلاق الطرق المؤدية إليها في مدينة نابلس الواقعة شمال الضفة الغربية وكذلك منطقة الاغوار القائمة تطول لتشمل غالبية القرى والمدن الفلسطينية.
يومياً تسجَّل اعتداءات متكررة تشمل حرق منازل وممتلكات، استخدام السلاح، واستهداف مباشر للمدنيين الفلسطينيين، وتهديدات متواصلة، إضافة إلى سرقة مواشي، ونصب الخيام في الأراضي الفلسطينية، وفي المقابل غالبية هذه الأفعال لا تُواجَه بردع قانوني ولا بإدانة داخلية مؤثرة، بل يُسمح لها بالتمدد ضمن سياسة تقوم على غضّ الطرف، وربما التواطؤ الممنهج.
السؤال الذي يفرض نفسه اليوم هو: هل يُمثّل هذا الارهاب مجرد إخفاق في ضبط المستوطنين، أم أنه يُدار كجزء من استراتيجية إحلاليه تهدف إلى تفريغ الأرض من سكانها الأصليين؟
إن المعطيات الميدانية والسياسية التاريخية، وتزامن التصعيد مع توسع المخططات الاستيطانية ورفض تجميدها، تشير إلى أن ما يحدث ليس طارئاً، بل هو أداة ضغط ديموغرافي وسياسي يجري استخدامها ضمن مشروع السيطرة الشاملة على الأرض.
لا يمكن فهم سلوك المستوطنين بوصفه مجرد تعبير عن تطرف ديني أو قومي خارج عن السيطرة، بل يجب قراءته ضمن إطار أوسع يرتبط بالسياسات الرسمية لدولة الاحتلال.
المستوطنون كأداة تنفيذ ميداني:
فالمستوطنون، لا سيما المنخرطون في مجموعات مثل “فتية التلال” أو “شبيبة التلال” يشكّلون ذراعاً ميدانية غير رسمية تُستخدم لتنفيذ مهام لا تستطيع الدولة المجاهرة بها مباشرة، وعلى رأسها: ترهيب السكان الفلسطينيين، دفعهم للهجرة القسرية، وخلق واقع أمني يشرعن مصادرة الأرض لاحقاً، إذ يظهر هذا الدور الوظيفي بوضوح في نمط الاعتداءات المتكررة التي تُنفذ بحماية كاملة من الجيش الإسرائيلي، أو في كثير من الحالات، بتنسيق مباشر معه. ففي عشرات الحوادث كان ينسحب جنود الاحتلال من محيط الحدث قبل وقوع الهجوم، أو يتدخلون بعد تنفيذه دون محاسبة أي من المستوطنين، بل ويوفرون لهم الحماية أثناء الانسحاب. هذا التواطؤ الأمني ليس تفصيلاً عابراً، بل يعكس شراكة مباشرة في إدارة الارهاب الميداني.
وبينما تتبنّى الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة خطاباً رسمياً يدّعي “رفض الارهاب”، فإنها في الواقع توفّر الغطاء السياسي والقانوني للمستوطنين، عبر استمرار التوسّع الاستيطاني، وتمرير قوانين تعزز سيطرة المستوطنات، وغضّ الطرف عن ممارسات المليشيات اليهودية المسلحة. وهكذا، يتحوّل المستوطن إلى أداة ضغط فعالة تُستخدم ضد الوجود الفلسطيني، دون أن تُحمّل الدولة كلفة المواجهة المباشرة مع القانون الدولي.
يشكّل الجهاز القانوني الإسرائيلي أحد الركائز الأساسية التي تسمح للعنف الاستيطاني بالاستمرار والتصاعد دون محاسبة. فرغم توثيق مئات الاعتداءات من قبل مؤسسات حقوقية إسرائيلية ودولية، تُغلق غالبية الملفات المقدمة ضد المستوطنين إما بحجة عدم كفاية الأدلة أو عدم التعرف على الجناة، حتى عندما تكون الهجمات موثقة بالصوت والصورة أو تنفذ في وضح النهار.
إن البيئة القانونية هي حامية الارهاب:
بالرغم من أن هذا القصور ليس ضعف مؤسسي، بل يعكس توجّها سياسياً وقانونياً مبرمجاً الشرطة الإسرائيلية، التي تتولى التحقيق في هذه الحوادث، غالباً ما تتقاعس في جمع الأدلة أو متابعة الشكاوى، بينما تتجنب النيابة العامة توجيه لوائح اتهام جدّية. وفي حال تم تقديم المستوطن للمحاكمة، فإن العقوبات تكون رمزية ولا تتناسب مع حجم الجريمة، مما يكرّس الشعور بالحصانة القانونية الكاملة.
إلى جانب ذلك، سُنّت في السنوات الأخيرة تشريعات تساهم في تحصين المستوطنين قانونياً، مثل قانون شرعنة البؤر الاستيطانية، وقرارات تقضي بعدم هدم منازل المستوطنين المبنية على أراضٍ فلسطينية خاصة إذا ثبت حسن النية، في الوقت الذي تُهدم فيه منازل الفلسطينيين بحجة عدم الترخيص. هذه الازدواجية القانونية تشكّل بيئة خصبة لتوسيع الارهاب الاستيطاني باعتباره جزءاً من المنظومة، لا خرقاً لها، وبذلك، لا تعمل المنظومة القانونية الإسرائيلية كأداة لتحقيق العدالة، بل كجدار حماية للعنف المنفلت، ومحرّك إضافي لتعزيز مشروع السيطرة الاستيطانية على حساب الحق الفلسطيني.
إذن ما هي الوظيفة الأساسية لهؤلاء المستوطنين واعمالهم اتجاه الفلسطينيين وهل تمثل ممارساتهم مجرد حالة فوضى متنقلة أم أداة منظمة لتفريغ الأرض؟
تفريغ الأرض: وظيفة الارهاب في المشروع الإحلالي:
لا يُمارَس الارهاب الاستيطاني في الضفة الغربية بمعزل عن أهداف استراتيجية بعيدة المدى، بل يُستخدم كأداة فعالة ضمن مشروع إحلالي يقوم على إزاحة الفلسطينيين من أرضهم وتثبيت وقائع ديموغرافية وجغرافية جديدة تخدم التوسّع الاستيطاني. في هذا السياق، لا يكون الارهاب غاية في ذاته، بل وسيلة لإجبار الفلسطيني على الانسحاب الطوعي أو القسري من أراضٍ مستهدفة، تمهيداً لضمّها فعلياً إلى المستوطنات القائمة أو لتوسيع البؤر العشوائية.
يرتبط هذا المسار بوضوح مع خطط سياسية أعلنها مسؤولون إسرائيليون، وعلى رأسهم وزير المالية المتطرف بتسلئيل سموتريتش، الذي يدعو صراحة إلى تطهير مناطق (ج) من الوجود الفلسطيني، عبر تشديد القيود، وهدم البنية التحتية، وحرمان الفلسطينيين من تصاريح البناء، توازياً مع تصعيد الاعتداءات الميدانية للمستوطنين. والنتيجة هي خلق بيئة أمنية ومعيشية خانقة تدفع الأهالي نحو المغادرة، ما يحقق عملياً هدف الترانسفير الصامت دون الحاجة لقرارات ترحيل رسمية.
وفي كثير من الحالات، يتكامل دور المستوطنين مع أدوات أخرى للسيطرة، مثل شقّ الطرق الالتفافية، بناء الجدران، إنشاء الحواجز، وإغلاق مناطق زراعية أو رعوية واسعة بحجة ” أنها مناطق العسكرية”. ما يوضح أن المشروع الاستيطاني يُدار كمنظومة إحلال متكاملة تتجاوز مجرد الاعتداءات الفردية تهدف لاستنزاف الوجود الفلسطيني وتغيير طابعه الديموغرافي بشكل تدريجي وممنهج.
ولأن هذا الارهاب لا يُقابل بأي رادع داخلي، فإن المناخ الدولي والإقليمي القائم يمنحه فرصة الاستمرار بل والازدهار ليشكل المناخ الدولي عامل مهم لزيادة غطرسة المستوطنين
الصمت الدولي والتواطؤ الإقليمي :
فرغم تصاعد وتيرة الارهاب الاستيطاني في الضفة الغربية، لا تزال ردود الفعل الدولية في إطارها التقليدي، مقتصرة على بيانات إدانة شكلية، لا تتبعها أي إجراءات فعلية لردع الاحتلال أو مساءلة المستوطنين. حتى في الحالات التي وثّقتها منظمات أممية وحقوقية دولية، لم تُفعّل أي آليات قانونية دولية جادة لمحاسبة إسرائيل على خروقاتها، بما في ذلك انتهاك اتفاقية جنيف الرابعة المتعلقة بحماية المدنيين تحت الاحتلال.
أن التزام المجتمع الدولي بالصمت لا يمكن تفسيره فقط بالعجز، بل بات يُفهم كغطاء سياسي يسمح بتمرير السياسات الإحلالية دون تكلفة فعلية. وتزداد خطورة هذا الصمت مع تنامي علاقات التطبيع العربي، حيث غاب الضغط السياسي الفعلي، بل تحولت بعض الأنظمة إلى شركاء غير مباشرين في شرعنة الاستيطان، عبر تعاون أمني أو اقتصادي يخدم مشروع السيطرة على الأرض. فهذا التواطؤ، سواء بالصمت أو الازدواجية، يمنح المستوطنين والجيش بيئة آمنة، ويقوّض أي فرصة للمساءلة أو الردع. وفي ظل عجز المؤسسات الدولية، حتى عن تنفيذ قراراتها، يتمتع الاحتلال بحصانة عملية تدفعه إلى مزيد من التصعيد بلا حساب.
في الختام ونتيجة لما سبق، يتّضح أن عنف المستوطنين ليس سلوكاً منفلتاً أو حالة خارجة عن السيطرة، بل جزء من بنية الاحتلال نفسه، وأداة رئيسية في تنفيذ مشروعه الإحلالي:
إذ وزعت الأدوار بوضوح: مُنح المستوطنين هامشاً واسعاً من الحركة الميدانية، وتوفّر لهم الحماية القانونية والسياسية، بينما تحافظ على صورة الجهة الرسمية في التعامل مع العالم الخارجي.
ولا يمكن فصل هذه السياسة عن المشهد الأوسع: من الإفلات المتكرّر من العقاب في الضفة، إلى المجازر المعلنة في قطاع غزة، مروراً بالتضييق الممنهج على الداخل الفلسطيني، تتضح ملامح سياسة إسرائيلية واحدة، تهدف إلى تفريغ الأرض من الفلسطينيين، عبر أدوات متنوّعة: القتل، القمع، الحصار، الطرد، والهدم. والجامع بين كل هذه الأدوات هو: شرعنة كل الوسائل، وتدمير كل الخطوط الحمراء، في ظل غياب كامل للرادع الأخلاقي، والقانوني، والدولي.
ما لم يُعرّف هذا الارهاب كأداة سياسية منظّمة، وما لم يُواجَه بخطاب فلسطيني موحّد وأدوات ردّ حقيقية، ستبقى إسرائيل تدير مشروع الإبادة والتفريغ على مراحل، دون أن تُضطر للإعلان عنه، ودون أن تواجه ثمناً فعلياً أمام العالم.