
بين سراب الهيمنة وخيانة القيم ، بقلم : محمد علوش
كأنما كتب على منطقتنا الصاخبة، بهذا الشرق الأوسط أن يكون مرآةً لأطماع الآخرين، وكأن في رماله سرّاً يغري الغزاة منذ الإسكندر إلى يومنا، وفي القلب من هذه الرمال، تتربع فلسطين الجريحة، جرح الزمان الذي لم يندمل، وقضية الحق التي اصطدمت مراراً وتكراراً بجدار السياسة الباردة، تلك التي تضع المصالح فوق المبادئ، وتضع الهيمنة فوق العدالة.
منذ منتصف القرن العشرين، بدا أن للولايات المتحدة الأمريكية بإداراتها المتعاقبة – الديمقراطية والجمهورية – هوساً لا يُخفى في التعامل مع قضايا المنطقة، وكأنها تمارس قدراً مقدراً، لا حياد فيه، فلم تكن واشنطن يوماً وسيطاً نزيهاً في صراع يتطلب العدل قبل أي شيء، بل كانت دائماً تُمسك كفة الميزان لصالح المحتل، وتغضّ الطرف عن الصواريخ والقذائف وقنابل الفسفور التي تُسقط على غزة، ثم تتباكى ببيانات محنّطة عن “حق الدفاع عن النفس”.
هذا الهوس الأمريكي ليس مجرد انحياز سياسي؛ بل هو عقيدة تلبّست القرار الأمريكي، وتسلّلت إلى اللغة والخطاب والدبلوماسية، حتى بات الاحتلال يُغلف بـ”الأمن”، والقتل يُسمّى “ردعاً”، والاستيطان يُبرَّر بـ”الوقائع على الأرض”، حيث تغدق الإدارة الأمريكية مليارات الدولارات على آلة الحرب الإسرائيلية، ثم تتساءل عن سبب غياب السلام.
وفي مشهد موازٍ، لا تتوقف هذه السياسة عن رسم خرائط للمنطقة، وكأنها لوحة شطرنج باردة، حيث تُقدَّم الشعوب قرابين على مذبح المصالح، وتداس الثورات إن خرجت عن النص، أو تدعم إن وافقت الهوى الأمريكي، فـ”الديمقراطية” عندهم لا تقاس بالصناديق، بل باتجاه الرياح.
أما الشعوب، فتقف بين نارين: استبداد داخلي مسنود من الخارج، واحتلال مموّل من “المدافع عن الحريات”، فكيف يقنعون طفلاً فلسطينياً بأن أمريكا هي راعية للسلام، وهي التي تسلّح من دمّر بيته، وكيف يُقنعون أماً ثكلى بأن العدالة ستأتي على يد من يبرر كل هذا الظلم؟
إن الهوس الأمريكي في المنطقة ليس وليد مصالح آنية فقط، بل هو ارتكاز على سردية استعمارية لم تمت، تتجدد بأقنعة حديثة: “الحرب على الإرهاب”، “نشر الديمقراطية”، و”حماية الأمن القومي”، وكلها عناوين براقة، تخفي خلفها شهية لا تشبع للسيطرة، وهيمنة لا تعبأ بالدماء.
ووسط كل هذا، تبقى فلسطين، لا كقضية فحسب، بل كاختبار أخلاقي للعالم، والولايات المتحدة، بما تملكه من تأثير، أخفقت في هذا الاختبار مرة تلو أخرى، لأنها اختارت أن ترى كل شيء إلا الحقيقة، واختارت أن تصنع سلاماً لا ينظر في عيون الضحايا، بل يفاوض على أنقاضهم.
إن الهوس الأمريكي ليس مجرد خطأ في الحسابات، بل هو خطيئة مستمرة، لن تمحوها الكلمات، ولا الصفقات، ولا الاتفاقيات، ووحده الاعتراف بالحق، وردّه إلى أهله، يمكن أن يضع حداً لهذا العبث، ويمنح العالم لحظة صدق طال غيابها.