
معضلة تكدّس الشيكل في البنوك الفلسطينية ، الأسباب، التداعيات، والحلول ، بقلم : د. محمد زيد
حديثا وبالتحديد في 29 أيار من عام 2025 أعلنت سلطة النقد الفلسطينية في بيان صحفي أن أزمة تكدّس النقد من الشيكل في البنوك الفلسطينية تصاعدت حتى بلغت الذروة، الأمر الذي يحمل في طياته تهديد سوف ينعكس في ظلاله على تمويل التجارة الخارجية، العمل المصرفي، وعجلة النشاط الإقتصادي في دولة فلسطين. وفي سياق ضبابية المشهد السائد وتشابك خيوط هذه الأزمة، تبرز الحاجة الملحّة إلى وضع الأمور في سياقها الأمثل وتوضيحها بجلاء، تفاديًا لإنزلاق الأوضاع نحو منعطفات أكثر تعقيدًا لا يُحمَد عُقباها. وفي هذا الصدد، يقدم هذا المقال قراءة عميقة ومستفيضة لمعالم هذه الأزمة.
ومما لا شك فيه، أن جذور هذه الأزمة ضاربة في العمق، فهي ليست نتاج اللحظة الراهنة، بل نتيجة تراكمات طويلة الأمد نجمت عن تقييد قناة انسياب الشيكل نحو الجانب الإسرائيلي، بفعل القيود والسقوف المفروضة على عمليات نقل الكتلة النقدية المتراكمة. وفي هذا الإطار، تجدر الإشارة إلى أن عملية شحن الشيكل إلى البنوك الإسرائيلية تخضع لنص قانوني مشار إليه في اتفاقية باريس الإقتصادية، الموقعة بين الجانبين منذ عام 1994. بصورة أدق، البند رقم (26) والذي ينص على: “سيسمح الجانبان بعلاقات تبادلية بين بنوك كل منهما”، والبند رقم (27) والذي ينص على: ” سيكون لسلطة النقد الفلسطينية حق تحويل الفائض من عملة الشيكل في البنوك العاملة في فلسطين الى عملة أجنبية من خلال بنك اسرائيل ولغاية مبلغ يتم تحديده بشكل دوري”.
وانطلاقاً مما سبق، يتحمل الجانب الإسرائيلي مسؤولية قانونية واضحة تفرض عليه ضمان انسياب وشحن الكتلة النقدية المتراكمة من الشيكل في البنوك الفلسطينية إلى نظيرتها الإسرائيلية دون عوائق. لكن ما يجري على أرض الواقع يكشف عن تنصلٍ صارخ من الإلتزامات القانونية التي توجب على الجانب الإسرائيلي امتصاص فائض الشيكل. والأسوأ من ذلك، أن سياسة رفض استلام الكتلة النقدية المتراكمة باتت تُستخدم كورقة ضغط سياسية تمارس على البنوك الفلسطينية، في مشهد لا يخلو من الابتزاز الواضح.
ومن خلال قراءة الواقع، تُظهر المؤشرات الراهنة بجلاء إستمرار تزايد تكدس عملة الشيكل في البنوك الفلسطينية، على الرغم من إغلاق أحد أهم قنوات انتقال الشيكل إلى السوق الفلسطيني، والمتمثلة في أجور العمالة داخل الخط الأخضر، التي كانت تضخ ما يقرب من 1.5 مليار شيكل شهريًا. وعلى الرغم أيضا من معاناة الإقتصاد الفلسطيني من حالة من التدهور والتراجع، حيث أظهرت بيانات الجهاز المركزي للإحصاء تراجعًا بنسبة 28% خلال عام 2024. في ظل ذلك، يتسم مشهد هذه الأزمة بدرجة من التعقيد، وبالتالي لا يمكن اختزالها في سبب وحيد، بل هي نتيجة لتداخل عوامل اقتصادية وسياسية واجتماعية تشكل تحديًا جوهريًا أمام الإستقرار المالي في السوق الفلسطيني.
وفي ظل هذا المشهد المرتبك، يظهر لنا التساؤل التالي: “ما هي أهم مصادر وقنوات ضخ الشيكل التي تغزو السوق الفلسطيني”؟. وللإجابة على هذا التساؤل الذي يشغل بال شريحة واسعة من الشارع الفلسطيني، يمكن استعراض أبرز مصادر تدفق الشيكل، على سبيل المثال لا الحصر: (1) مشتريات فلسطيني الداخل من أسواق مدن الضفة الغربية. (2) تملك أصول وبالتحديد “عقارات” في الضفة الغربية من قبل فلسطيني الداخل. (3) التحويلات البنكية الناتجة عن التسويات المالية لتبادل التجاري بين الجانبين، حيث تتم هذه التسويات من خلال البنوك المراسلة الإسرائيلية “بنك هبوعليم، وبنك ديسكونت”. (4) عائدات المقاصة والتي تعتبر مصدرًا لتغذية الخزينة العامة لدولة فلسطين ويرتبط استلامها بالمشهد السياسي. (5) توجه فئة من المجتمع بشراء الدولار أو الدينار “كملاذ آمن مقارنة بالشيكل” من البنوك الفلسطينية والإحتفاظ به تحسبا لأي طارىء قد يحدث. (6) أجور ما تبقى من العاملين داخل الخط الأخضر والمستوطنات والتي تدفع نقدا بعملة الشيكل. (7) لجوء بعض الأفراد للسوق الفلسطيني لتصريف ما بحوزتهم من أرصدة نقدية في عملة الشيكل، وذلك نتيجة سياسة تشديد الرقابة على تداول الأموال داخل البنوك الإسرائيلية.
تداعيات القيود المفروضة على شحن فائض الشيكل
يهدد تكدّس الشيكل في خزائن البنوك الفلسطينية حركة التبادل التجاري مع الجانب الإسرائيلي، خاصة في ما يتعلق بتوريد السلع والخدمات الأساسية للسوق الفلسطيني، وذلك بسبب عدم قدرة البنوك الفلسطينية على تنفيذ حركات الدفع لعمليات شراء التجار الفلسطينين لسلة من السلع والخدمات من قبل موردين اسرائيليين. علاوة على ذلك، يؤدي تراكم الفائض من عملة الشيكل وتشدد الجانب الإسرائيلي على استقباله إلى تكبد البنوك تكاليف لوجستية باهظة تتعلق في توفير بيئة آمنة للإحتفاظ بهذه الكتلة النقدية والتي فاقت القدرة الإستيعابية الإعتيادية للبنوك الفلسطينية. بالإضافة لذلك، إن عدم امتصاص البنوك الإسرائيلية لنقد المتراكم من عملة الشيكل يُفضي الى تفاقم مشكلة عدم القدرة على تغذية البنوك الفلسطينية لحساباتها لدى البنوك الإسرائيلية وبالتالي تجميد النقد داخل النظام المصرفي على هيئة (أموال خاملة) دون تشغيل فعّال الأمر الذي يتمخض عنه خسارة الفرص الإستثمارية البديلة، بمعنى فقدان عوائد كان من الممكن تحقيقها فيما لو تم توظيفها أو استثمارها.
وبشكل عام، يسهم تكدّس الفائض من الشيكل في زيادة هشاشة الإقتصاد الفلسطيني، دافعًا به نحو مرحلة نمو حرجة ومضطربة. ولا يقتصر الأمر على ذلك، بل إن تراكم النقد من الشيكل يعمل على تهديد آفاق التجارة عبر القنوات الرسمية “المصرفية” والتي تعمل في إطار رقابي رصين، وذلك بسبب العزوف نحو إجراء المعاملات التجارية خارج إطار القنوات المصرفية، مما يُؤجّج خسائر الخزينة العامة عبر تآكل الإيرادات الضريبية، ويعمّق بالتالي نزيف المالية العامة.
الحلول المقترحة لتخفيض مستويات النقد المتراكم من عملة الشيكل في البنوك الفلسطينية
بعد تسليط الضوء على أبرز قنوات ضخ الشيكل في السوق الفلسطيني، واستعراض الآثار المقلقة لتكدسه في خزائن البنوك، بات من الممكن الآن طرح جملة من الحلول المبنية على قراءة متأنية ومعمّقة لمعطيات الواقع، وفيما يلي أهم هذه الحلول: (1) منح تسهيلات ائتمانية بفوائد منخفضة للمشاريع الريادية والإبتكارية من أجل وقف خسارة تكلفة الفرصة البديلة لنقد الخامل. (2) تشجيع التسعير والدفع بعملة الدولار أو الدينار في بعض القطاعات. (3) تعزيز عملية تدفق النقد “رقميًا” عبر قنوات الدفع الإلكترونية، والتي تعتبر خطوة محورية نحو تقليص الإعتماد على النقد المادي، والتخفيف من الحاجة إلى احتجاز كتل ضخمة من الشيكل في خزائن البنوك لمقابلة عمليات السحب التقليدية. وبالتالي، سوف يكون هناك فرصة لإستغلال السيولة المجمّدة لتحفيزعجلة الإنتاج وتحريك النشاط الإقتصادي. ولابد من الإشارة إلى أن الأثر الإيجابي لهذا الحل لن يتم لمسه في ليله وضحاها، بل يحتاج لوقت سواء طال أم قصر، بحسب الظروف والمعطيات. أضف لذلك، إن معالجة هذه الأزمة تستدعي حزمة من الإجراءات المتوازية، إذ لا يمكن الركون إلى حل منفرد في مواجهة أزمة بهذا التعقيد. (4) التحرك سياسياً نحو تجنيد الضغط الدولي وبالتحديد من قبل الرعاة الرئيسيين لإتفاقية أوسلو والبروتوكولات الملحقة بها والتي من ضمنها بروتوكول باريس الإقتصادي تجاه إلزام البنوك الإسرائيلية على امتصاص الفائض من عملتها “الشيكل”. علاوة على ذلك. (5) في ظل القدرة المحدودة للبنوك الفلسطينية على التخلص من فائض الشيكل وعدم توفر آلية مباشرة لإعادة الشيكل الى البنوك الإسرائيلية بشكل سلسل ودون إبتزاز، فإنه لابد من تعزيز مساعي الضغط الدبلوماسي من خلال المؤسسات الدولية أيضا “البنك الدولي، صندوق النقد الدولي” لإجبار الجانب الإسرائيلي على تحمل مسؤوليته كمُصدر لعملة الشيكل.
وبالنظر الى السياق الفلسطيني المعقد، وضبابية المشهد السياسي بين الجانبين، فإن حل مشكلة تكدّس الشيكل يتطلب نهجًا شاملاً وذات أوجه متعددة على صعيد السياسات المالية، الضغط الدبلوماسي، البنية المصرفية، الإبتكارات المصرفية التي تعزز نهج الدفع الإلكتروني، ثقة المواطن في أنظمة الدفع الإلكتروني. في هذا السياق، فإن تكريس الجهود نحو حل سحري منفرد، لن يساهم بكل تأكيد في تفكيك جذور هذه الأزمة ولن يكون حلاً ناجعاً. لذلك، لا يوجد حل واحد “أمثل” لمعضلة تكدّس الشيكل، وإنما مجموعة متكاملة ومتناغمة من الإجراءات والتي لابد أن تتفاعل سويا لتفضي في نهاية المطاف إلى تخفيض النقد المتراكم في البنوك الفلسطينية.
- – د. محمد زيد – محاضر في جامعة فلسطين التقنية – خضوري – كلية العلوم الإدارية والإقتصادية