
الـحـرب الإسـرائـيـلـيـة الـتـي كـانـت تـنـتـظـر الـوقـت الـمـنـاسـب ، بقلم : د. ماهر الشريف
في 27 أيلول/سبتمبر 2012، ألقى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو خطاباً أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، حذر فيه العالم من البرنامج النووي الايراني، منبهاً إلى أن طهران “ستمتلك ما يكفي لصنع قنبلة نووية في منتصف العام المقبل”، وقال: “في الربيع المقبل، أو في الصيف المقبل على أقصى تقدير، وبالوتيرة التي يسير بها الإيرانيون حالياً في تخصيب اليورانيوم، سيتمكنون من الانتقال إلى المرحلة النهائية، وهم لا يحتاجون سوى بضعة أشهر، وربما بضعة أسابيع، قبل أن يحصلوا على ما يكفي من اليورانيوم المخصب لصنع أول قنبلة نووية“. ولكن قبل بضعة أشهر من ذلك الخطاب، كان وزير الأمن الإسرائيلي آنذاك إيهود باراك ورئيس أركان الجيش الإسرائيلي بيني غانتس يؤكدان علناً أن إيران “لا تملك النية ولا الوسائل للحصول على القنبلة”. وبعد بضعة أسابيع، وبينما تزايدت الأنباء عن مفاوضات بين الولايات المتحدة وإيران للتوصل إلى اتفاق بشأن البرنامج النووي، أكد بنيامين نتنياهو في خطاب ألقاه في القدس أنه “مستعد إذا لزم الأمر لشن هجوم على المواقع النووية الإيرانية”. بعد ذلك، خلال الحملة الانتخابية في آذار/مارس 2015 التي مكنته من الحصول على ولاية رابعة، كرر شعاره: “لا دولة فلسطينية، ولا نووي إيراني” (1).
عمليات سرية تستهدف البرنامج النووي الإيراني
منذ عودته إلى رئاسة الحكومة الإسرائيلية في سنة 2009، وضع بنيامين نتنياهو لنفسه هدفاً رئيسياً وهو القضاء بأي ثمن على البرنامج النووي الذي تطوره إيران، والذي أنكرت، مراراً وتكراراً، طابعه العسكري، بل ذهب مسؤولوها أحياناً إلى القول إن صنع القنبلة النووية يتعارض مع المبادئ الإسلامية. ومنذ ذلك الحين، انطلقت عمليات سرية إسرائيلية ضد هذا البرنامج، إذ تسبب فيروس “ستاكسنت” الحاسوبي، الذي يُنسب إلى أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية والأميركية، في سنة 2010 في تعطيل أجهزة الطرد المركزي الإيرانية.
وبينما كانت تشتد لهجة الخطاب الإسرائيلي ضد برنامج إيران النووي، أُعلن، في 4 نيسان/أبريل 2015 ، عن توصل المفاوضات الطويلة والصعبة التي كان يجريها الأعضاء الخمسة الدائمون في مجلس الأمن الدولي (الولايات المتحدة وروسيا والصين وبريطانيا وفرنسا)، فضلاً عن ألمانيا، إلى اتفاق مع إيران، يقضي بفرض قيود على عمليات تخصيب اليورانيوم وتخزينه في أراضيها، بحيث لا تتجاوز نسبة التخصيب 67. 3 % ، والسماح بزيارات المفتشين الدوليين الدورية للمنشآت النووية الإيرانية، في مقابل رفع العقوبات المالية والاقتصادية التي تفرضها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وعدد من المؤسسات الدولية على شركات ومؤسسات إيرانية. وعلى الرغم من ذلك الاتفاق، الذي عارضه بشدة بنيامين نتنياهو، تواصلت العمليات الإسرائيلية السرية ضد البرنامج الإيراني، وكشف بنيامين نتنياهو، في خطاب ألقاه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في 27 أيلول/سبتمبر 2018، أن إسرائيل حصلت على مجموعة من الوثائق من مستودع في طهران، تبيّن أن لدى إيران منشأة سرية في طهران يُخزن فيها كم هائل من المعدات والمواد المرتبطة ببرنامج إيران النووي، ورحب بانسحاب إدارة الرئيس دونالد ترامب، في 8 أيار/مايو من ذلك العام، من الاتفاق النووي الموقع مع إيران في سنة 2015، مؤكداً أنه عارضه لأنه “يهدد مستقبل إسرائيل” ويمهد الطريق أمام إيران “لتطوير أسلحة نووية”.
وفي تموز/يوليو 2020، تسبب انفجار في وقوع أضرار جسيمة في مصنع لأجهزة الطرد المركزي في منشاة نطنز النووية، وفي وقت لاحق من العام نفسه، اغتيل أبرز العلماء النوويين الإيرانيين، وهو محسن فخري زاده بالقرب من طهران، باستخدام سلاح إسرائيلي يتم التحكم فيه عن بعد. وفي سنة 2021، اتهمت إيران إسرائيل مرة أخرى بأنها السبب في انقطاع التيار الكهربائي في منشأة نطنز النووية، وبعد ذلك بوقت قصير، بدأت في تخصيب اليورانيوم بنسبة نقاء تبلغ 60 % رداً على انسحاب إدارة دونالد ترامب من اتفاق سنة 2015. ثم اتهمت إيران إسرائيل، في سنة 2022، بتسميم اثنين من علمائها النوويين، كما اتهمتها، في 22 أيار/مايو من ذلك العام، باغتيال العقيد في الحرس الثوري حسن صياد خدايي خارج منزله في طهران (2).
توفّر الفرصة المناسبة لشن الحرب على إيران
بعد قيام إسرائيل بشن حرب الإبادة على قطاع غزة، تواصلت العمليات الإسرائيلية ضد إيران، إذ ألحقت عملية إسرائيلية، في مطلع سنة 2024، أضراراً كبيرة بخط أنابيب غاز إيراني، وفي 1 نيسان/ أبريل من ذلك العام، دمر صاروخ قنصلية إيران في دمشق، ما أسفر عن مقتل جنرالين في الحرس الثوري و14 شخصاً آخرين. ورداً على ذلك، أطلقت إيران، في ليلة 13-14 من ذلك الشهر، أكثر من 300 صاروخ وطائرة من دون طيار في هجوم مباشر على إسرائيل، اعترضت الدفاعات الجوية الإسرائيلية معظمها بمساعدة الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا. وكانت تلك المرة الأولى التي تستهدف فيها إيران إسرائيل بصورة مباشرة، مبيّنة أنها لن تقبل، كما في الماضي، بتلقي الضربات التي توجهها تل أبيب من دون الرد عليها. وجاء الرد الإسرائيلي الرمزي، في فجر يوم 18 نيسان، في شكل قصف بطائرات من دون طيار لقاعدة جوية قرب أصفهان.
وفي الأول من تشرين الأول/اكتوبر 2024، ورداً على اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة “حماس” إسماعيل هنية في طهران والأمين العام لحزب الله حسن نصر الله في بيروت، أطلقت إيران نحو 250 صاروخاً في اتجاه إسرائيل، ردت عليها هذه الأخيرة، في 26 من ذلك الشهر، بضرب دفاعات جوبة إيرانية وتدمير منشآت تصنيع الوقود الصلب للصواريخ الباليستية عندما عاد دونالد ترامب إلى البيت الأبيض في ولاية رئاسية ثانية، في كانون الثاني/يناير 2025، كانت إسرائيل تواصل حرب الإبادة التي تشنها على قطاع غزة، وذلك بعد أن كانت قد وجهت ضربة قوية إلى حزب الله وتوصلت مع لبنان إلى اتفاق لوقف إطلاق النار، وبعد أن كان النظام السوري المؤيد لإيران قد سقط في دمشق.
وبينما كانت إسرائيل تستعد لشن حرب واسعة على إيران، كانت إدارة دونالد ترامب قد شرعت، في 12 نيسان/أبريل 2025، في مفاوضات غير مباشرة مع إيران، من خلال سلطنة عُمان، بغية التوصل إلى اتفاق نووي جديد معها، حدد لها الرئيس الأميركي فترة شهرين للتوصل إلى اتفاق. بيد أن خمس جولات من تلك المفاوضات لم تفضِ إلى نتيجة إيجابية، واصطدمت برفض المفاوضين الإيرانيين المطلب الأميركي الرئيسي وهو تخلي إيران عن تخصيب اليورانيوم على أراضيها حتى ولو بنسبة 67. 3 % المحددة في اتفاق سنة 2015 (3(.
وفي 13 حزيران/يونيو الجاري، أي بعد يوم واحد فقط من انتهاء المهلة التي وضعها دونالد ترامب للتوصل إلى اتفاق، وقبل يومين من بدء الجولة السادسة المقررة من المفاوضات، بدأ سلاح الجو الإسرائيلي بقصف المواقع العسكرية والنووية الإيرانية، واغتيال كبار القادة العسكريين والعلماء الإيرانيين كتمهيد لحرب واسعة، أراد بنيامين نتنياهو منها الحؤول دون التوصل إلى أي اتفاق جديد بين طهران وواشنطن وإجبار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على تأجيل المؤتمر المقرر عقده في الأمم المتحدة في نيويورك بشأن فلسطين، والذي كان من المقرر أن تعلن فرنسا فيه اعترافها بدولة فلسطين. ففي الوقت الذي يغذي فيه الدمار الذي لحق بقطاع غزة، والمذابح التي يرتكبها جيش الاحتلال، النقمة على إسرائيل في أجزاء عديدة من العالم، فإن فتح جبهة مع إيران قد يسمح لنتنياهو بتوحيد صفوف مواطنيه في مواجهة العواصم الأجنبية التي تطالب بفرض عقوبات على إسرائيل، وتقويض المبادرات الدبلوماسية الداعمة لقيام دولة فلسطينية، والتهرب من من الملاحقات القضائية التي تستهدفه من خلال إبقاء بلده في حالة حرب تتطلب “الوحدة الوطنية” وتقلل من احتمال إجراء انتخابات مبكرة، ستؤدي حتماً إلى هزيمته (4).
موقف واشنطن المخادع
في اليوم السابق للهجوم الإسرائيلي، طلبت الإدارة الأميركية من الدبلوماسيين غير الأساسيين في العراق مغادرة البلاد، وردّ دونالد ترامب بإيجاز على الصحافيين الذين سألوه عن دلالة هذه الخطوة بالقول إن المنطقة خطيرة. وقبل ساعات قليلة من بدء الهجوم الإسرائيلي، وفي مقابلة مع قناة “فوكس نيوز”، أعلن الرئيس الأميركي أنه علم أن إسرائيل ستشنّ ضربات على إيران، وأكد مجدداً أن طهران لا يمكن أن تمتلك أسلحة نووية. وبعد انطلاق الهجوم الجوي الإسرائيلي، أعلن ماركو روبيو، وزير الخارجية الأميركي، أن واشنطن ليست متورطة في الهجوم الإسرائيلي، الذي وصفه بأنه “أحادي الجانب”، في موقف يهدف، في المقام الأول، إلى حماية القواعد العسكرية الأميركية في المنطقة من أي رد فعل إيراني محتمل، مع أنه من غير المرجح أن واشنطن لم تُعطِ موافقة ضمنية على الأقل على الهجوم الإسرائيلي (5).
في يوم 13 حزيران/يونيو الجاري، حث دونالد ترامب طهران على التوصل إلى اتفاق بشأن برنامجها النووي، وقال، بأسلوبه المعتاد، “افعلوا ذلك قبل فوات الأوان”، وقبل أن تتعرضوا لـ “هجمات أكثر قسوة” من جانب إسرائيل، مؤكداً أن الضربات الإسرائيلية المكثفة التي شنت خلال الليل على الأراضي الإيرانية يجب أن تُفسر على أنها “تحذير”. ويبدو أن الرئيس الأميركي حاول استغلال الوضع لصالحه، في منطق معروف جيداً هو “العصا والجزرة”، إذ سمح لإسرائيل بشن حربها، وأرسل، في الوقت نفسه، إلى طهران رسالة حاسمة: “إن رفض الاتفاق اليوم يعني التعرض لما هو أسوأ غداً (6).
وفي 15 من الشهر الجاري، دعا دونالد ترامب كلاً من إسرائيل وإيران إلى “التوصل إلى اتفاق”، وكتب على موقع التواصل الاجتماعي الخاص به “أن العديد من المكالمات والاجتماعات تجري في الوقت الحالي”، معرباً عن “انفتاحه” على قيام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بدور الوسيط في النزاع بين إسرائيل وإيران، والذي “من الممكن” أن تتدخل فيه الولايات المتحدة، مضيفاً في مقابلة مع شبكة “إيه بي سي نيوز” أن فلاديمير بوتين “مستعد، وهو اتصل بي وناقشنا الأمر مطولاً” (7(.
وكان الرئيس الأميركي قد حذر من أن أي هجوم على الولايات المتحدة سيؤدي إلى “رد عسكري غير مسبوق”، وخاطب الإيرانيين بقوله: “إذا تعرضنا لأي هجوم من أي نوع، فستنهال عليكم كل قوة وجبروت القوات المسلحة الأميركية بمستويات لم يسبق لها مثيل”، مؤكداً، من جديد، أن “لا علاقة” لبلاده بالعمليات الإسرائيلية، التي “تمّ إخطاره بها مسبقاً”. وبحسب العديد من المراقبين، فإن التزام الولايات المتحدة لا يزال محصوراً في مساعدة إسرائيل في اعتراض الصواريخ الإيرانية التي تنهال عليها وفي التحذيرات، “لكن الخط الأحمر الذي رسمه قد يحوّل بسرعة حرباً إقليمية إلى صراع عالمي إذا قررت إيران استهداف مصالح أو قواعد أميركية” (.
رد الفعل الإيراني على الحرب التي تستهدفها
لعل إيران لم تتفاجأ كثيراً من الهجوم الإسرائيلي نفسه، بل من توقيته، وخصوصاً أنه كان من المقرر أن يلتقي المبعوث الأميركي ستيف ويتكوف بوزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي في سلطنة عُمان يوم الأحد في 15 من الشهر الجاري في جولة سادسة من المفاوضات. وكانت قد انتشرت قبل يوم من الهجوم الإسرائيلي شائعات عن استعداد إسرائيل لشن هجوم مُحتمل يكون بمثابة ضغطٍ أقصى على طهران عشية هذا الاجتماع. ورداً على الحرب الإسرائيلية، لجأت إيران إلى قدراتها الصاروخية الكبيرة، إذ أطلقت، منذ مساء يوم 13 حزيران، عدة رشقات صاروخية على أهداف إسرائيلية، استهدفت مدينتَي تل أبيب الكبرى وحيفا بصورة خاصة، وأسفرت عن سقوط عشرات القتلى والجرحى كما تسببت بوقوع أضرار فادحة في عدد كبير من المباني. وكان صاروخ قد أصاب مبنى سكنياً مؤلفاً من أربع طبقات في بلدة طمرة العربية في الجليل الغربي، ما أسفر عن مقتل 4 نساء من العائلة نفسها، وإصابة 14 شخصاً آخرين بجراح. وقد أعلن المسؤولون العسكريون الإيرانيون بأن إطلاق الصواريخ على الأهداف الإسرائيلية سيتواصل طالما استمرت الهجمات التي تشنها الطائرات الإسرائيلية على أهداف إيرانية، كما وردت أخبار تفيد بأن البرلمان الإيراني قد يناقش مشروع قانون تنسحب بموجبه إيران من معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية (9).
تداعيات استمرار الحرب
إن حرباً طويلة وواسعة النطاق بين إسرائيل وإيران من شأنها أن تزعزع الاستقرار في المنطقة والعالم بصورة عميقة، إذ قد تتأثر أوروبا بانقطاع تدفقات النفط العالمية، ومن ارتفاع أسعار الطاقة، ومن الآثار المترتبة على التهديدات التي يتعرض لها طريق الشحن الرئيسي في حال إقدام إيران على إغلاق مضيق هرمز. ومن جهة أخرى، يٌطرح سؤال عن موقف الصين وروسيا، التي تحافظ إيران على علاقات سياسية واقتصادية معهما، في حال استمرار هذه الحرب لفترة طويلة، علماً بأن الدول الثلاث هي ضمن مجموعة البريكس، كما أن إيران هي من أكبر موردي النفط للصين، وهي تحافظ على علاقات عسكرية مع موسكو. وكانت أسعار النفط، قد قفزت، في الساعات الأربع التي أعقبت الهجوم الإسرائيلي تدريجياً من 5% إلى 12% . وفي حال استمرار هذه الحرب، قد تنجح إسرائيل في جر إدارة دونالد ترامب إلى المشاركة فيها، علماً بأن للأمريكيين عدة قواعد عسكرية في الشرق الأوسط، ونحو 40 ألف جندي، بما في ذلك العراق، جار إيران، كما تتواجد في العراق عدة جماعات متحالفة مع إيران، كانت قد استهدفت القواعد الأميركية عدة مرات في بداية الحرب على قطاع غزة (10).
ولهذه الاعتبارات، يتوجب على الدول القادرة على التأثير على حكومة الحرب في تل أبيب إقناعها بوقف هجماتها الجوية على إيران التي لن تنجح، مهما طالت، في القضاء على البرنامج النووي الإيراني بصورة تامة، وإن كانت قد تنجح في تأخيرة لعدة سنوات قادمة، بحيث يمهد توقف الحرب طريق العودة من جديد إلى طاولة المفاوضات التي كانت طهران مستعدة لمواصلتها.
- – د. ماهر الشريف – باحث ومؤرخ في مؤسسة الدراسات الفلسطينية – بيروت.