
فلسطينُ بين ألسنة اللهب وظلال القوى: مسرحُ النفوذِ وغربةُ التحرير ، بقلم : ثروت زيد الكيلاني
في خضم الاشتباكات اللفظية والميدانية بين إيران والكيان الصهيوني، تتكشف حقيقة مقلقة: الصراع المشتعل لا ينبع من إرادة مواجهة حاسمة، بل يُدار كمسرحية استراتيجية تهدف إلى تثبيت ميزان مصالح دولي وإقليمي. وفي قلب هذه اللعبة، تُختزل فلسطين مجدداً إلى ورقة في معادلات الردع والتسويات المؤجلة.
أولاً: الصراع الإيراني–الإسرائيلي.. لا حرب نهائية ولا سلام قائم
تستمر إسرائيل في تنفيذ ضربات دقيقة تستهدف منشآت إيرانية حيوية، نووية ونفطية، سواء داخل إيران أو في ساحات نفوذها الإقليمية، في محاولة لتقويض القوة الاستراتيجية لطهران. بالمقابل، كسرت إيران لأول مرة “قاعدة الرد بالوكالة”، موجّهة ضربات مباشرة من أراضيها نحو إسرائيل، في رسالة تبرز حضورها المباشر دون الانجرار إلى حرب شاملة. ورغم هذا التصعيد النوعي، يحافظ الطرفان على عدم تجاوز الخطوط الحمراء النووية والعسكرية التي تبدو مرسومة ضمنياً، في توازن دقيق يجمع بين استعراض القوة وتفادي الانفجار الكامل.
لا يهدف هذا الصراع إلى الإزالة الكاملة لأحد الطرفين، بل هو نموذج لـ “العداء الوظيفي”، إذ يتغذى كل طرف على وجود الآخر لتعزيز شرعيته وخطابه السياسي. فإيران ترى في وجود الكيان الصهيوني ركيزة لبقاء خطاب “المقاومة” حيّاً وفاعلاً داخلياً وخارجياً، بينما تستخدم إسرائيل “الخطر الإيراني” ذريعةً لتعزيز عسكرة المنطقة وضمان استمرار الدعم الأميركي–الأوروبي. هكذا، يصبح الصراع رقعة يتم ضبط إيقاعها بعناية، يُعاد ضبطها عند الاقتراب من حدود الانفجار، في لعبة مصالح أكثر منها نزاع حاسم.
ثانياً: القوى الإقليمية بين التموضع والفرص
تتجه قوى إقليمية كبرى لإعادة تموضع مدروس، تبحث فيه عن توازن بين مصالحها وتفادي المواجهة المباشرة. السعودية، عقب مصالحتها مع إيران، تبني نفوذاً دبلوماسياً أكثر اتزاناً، مع تعزيز تحالفاتها العسكرية مع الغرب كضمانة أمنية. تركيا تتبع براغماتية متوازنة، تنسق أمنياً مع إسرائيل وتدعم إعلامياً الصمود الفلسطيني، مستثمرة أدوارها المتعددة في المشهد الإقليمي. أما مصر، فتظل وسيطاً محورياً في غزة، مع قلق واضح من توسع النفوذ الإيراني في البحر الأحمر، الذي تشكله تهديداً لأمنها القومي.
على الجبهة الآسيوية، تبرز باكستان والهند كلاعبين جيو-نوويين حذرين: باكستان تحذر من أي تهديد نووي محتمل في محيطها، بينما تعزز الهند شراكات أمنية متقدمة مع إسرائيل، خصوصاً في مجال الذكاء الاصطناعي والتقنيات العسكرية. يتضح أن هذه الدول لا تبحث عن اصطفاف في مواجهة شاملة، بل ترى في التوتر القائم فرصة لإعادة توزيع الأدوار: السعودية لتحجيم تمدد إيران دون حرب، تركيا لتعزيز نفوذها، مصر لضبط حدودها، والهند وباكستان لتفادي فوضى نووية في آسيا.
ثالثاً: التحالفات الدولية وتحولات النفوذ
على الصعيد الدولي، يتحول الصراع إلى رقعة شطرنج معقدة تُدار فيها الأزمات لإعادة توزيع النفوذ لا لحلها. الولايات المتحدة، خصوصاً في عهد الثاني لترامب، تتبع سياسة دعم عن بُعد لإسرائيل، توفر الغطاء العسكري والاستخباري دون تدخل مباشر، مستثمرة التوتر لتبرير استمرار وجودها في الخليج وإعادة ترتيب تحالفاتها. في المقابل، الصين وروسيا تدعمان إيران كجزء من استراتيجية إضعاف الغرب وتوسيع نفوذهما الاقتصادي والعسكري، دون رغبة في تصعيد مباشر.
كوريا الشمالية تدخل الخط بدعم غير مشروط لإيران، معززة البعد الرمزي للمواجهة مع “الهيمنة الغربية”. أوروبا، ممثلة ببريطانيا وفرنسا وألمانيا، تتبنى سياسة احتواء مدفوعة بمخاوف أمن الطاقة واستقرار البحر المتوسط، تسعى لإحياء الاتفاق النووي لمنع انهيار البيئة الإقليمية. هكذا، يصبح الصراع أداة لإعادة هندسة النفوذ الدولي، حيث تراهن أميركا على أزمات مُدارة، وتستثمر الصين وروسيا التوسع دون مواجهة، في حين تحاول أوروبا تقليل المخاطر.
رابعاً: فلسطين في قلب العاصفة.. الغائب الحاضر
رغم تصاعد التوترات الإقليمية والدولية، تبقى فلسطين حاضرة في الخطابات لكنها غائبة عن مراكز القرار. إسرائيل توسع عملياتها في غزة والضفة تحت ذريعة “ضرب أذرع إيران”، مستترة خلف ذلك مشاريع الحصار والتوسع الاستيطاني وتفريغ الأرض. إيران من جانبها ترفع منسوب الخطاب المؤيد للمقاومة دون دعم نوعي في موازين الردع، مكتفية بتصريحات رمزية تعزز حضورها دون كلفة مباشرة.
القضية الفلسطينية مجدداً تختزل في وظيفة سياسية ضمن خطاب قوى النفوذ؛ فهي لإيران ورقة شرعية ثورية لا أداة تحريرية، ولإسرائيل ذريعة لاستدرار الدعم الغربي وتبرير الانتهاكات. يدفع الفلسطينيون ثمن توازنات كبرى لا يتحكمون بها، وهم الجبهة الوحيدة التي تنزف يومياً، بلا دعم فعلي من “شركاء” يتاجرون بوجعهم في المؤتمرات وطاولات الصفقات.
ختاماً؛ في مشهد تملؤه القنابل الذكية والأقمار الصناعية والطائرات المسيّرة، تتكشف الحقيقة الأعمق: ما يُسمى بالحرب بين إيران وإسرائيل ليس سوى مسرح استنزاف مضبوط الإيقاع، تُدار فيه النيران بما يخدم مصالح القوى، وتُستنزف فيه الشعوب تحت رهانات المصالح لا المبادئ. في هذا الواقع، تُفرّغ القضايا العادلة من مضمونها لتحويلها إلى أدوات تفاوض وضغط. وسط هذا الركام الأخلاقي، تبقى فلسطين المعيار الوحيد لصدق الشعارات وامتحان الضمير العالمي. وإن إخراجها من أوراق المحاور، باعتبارها قضية تحرر إنساني وليست ورقة مساومة، صار ضرورة فلسطينية وعربية وأخلاقية تتقدم على كل تحالف أو اصطفاف.