
بين طهران وتل أبيب: نظرة فلسطينية خارج الاصطفافات ، بقلم : هاني ابو عمرة
في الزمن الذي تتناسل فيه الحروب على أطراف فلسطين، نُستدعى دوما للسؤال عن موقعنا، لا من الحدث فقط، بل من التاريخ القادم أيضاً.
اندلاع المواجهة بين إسرائيل وإيران، ولو بشكل غير معلن حتى الآن، هو أخطر من مجرد تصعيد عابر. نحن أمام انزلاق نحو معركة كبرى، تتجاوز الحسابات النووية أو الأمنية، وتمضي نحو إعادة ترتيب الإقليم من جديد، وإسرائيل في قلب ذلك الترتيب.
كفلسطيني، لا أملك ترف الحياد حين تشتعل نار كهذه، لكنني أيضا أرفض أن أكون جنديا في حرب غيري، أو مطية لمشاريع لا تعنيني. رؤيتي تنطلق من موقعي كابن لهذه القضية، المؤمنة بمشروعها الوطني الجامع، الممثل تاريخيا في منظمة التحرير الفلسطينية، بما تمثله من مرجعية سياسية ومؤسساتية لا ترتبط بمحاور بل بالشعب الفلسطيني وبأهدافه العليا.
لنكن واضحين: إسرائيل لا تقصف إيران فقط لأنها تخشى قنبلة نووية فحسب، بل لأنها ترى أن إيران، بحضورها السياسي والعسكري، تشكل حاجزا أمام مشروع “إسرائيل الكبرى” بصيغته الإقليمية الحديثة: دولة مهيمنة، محاطة بأنظمة وظيفية، ومجتمعات مفككة، بلا مقاومات.
في هذا الإطار، تبدو الحرب خطوة تكميلية بعد فشل الحرب على غزة. حين عجزت إسرائيل عن كسر إرادة الفلسطينيين في قطاع صغير محاصر، قررت أن تبدأ من الرأس الذي ترى فيه “شبكة” تمتد إلى الضاحية وصنعاء وبغداد. هذا التفكير الإسرائيلي ليس فقط أمنيا، بل استراتيجيا، ويهدف إلى إعادة هيكلة ميزان القوى في الشرق الأوسط، وبالنتيجة، شطب القضية الفلسطينية من جدول أعمال العالم.
وبوصفي فلسطينيا لا أرى القضية من منطلق المصلحة الإيرانية، ولا من موقع العداء الأعمى لطهران، فإن موقفي ليس أخلاقيا فقط، بل سياسيا.
فالحرب الجارية، سواء اتسعت أم بقيت موضعية، تشكل خطرا مباشرا على مشروعنا الوطني لأنها باختصار ستمنح إسرائيل غطاء استراتيجيا لتكثيف عدوانها على غزة، تحت ذريعة محاربة “الذراع الإيرانية”وهو ذريعة تستخدمها اسرائيل منذ بداية حرب الابادة على غزة وعلى مخيمات اللاجئين بالضفة الغربية،
ثم ان هذه الحرب ستعزل القضية الفلسطينية دوليا، في ظل تحول الاهتمام نحو “الأمن الإقليمي” و”مخاطر إيران النووية”، كما جرى زمن ما بعد 11 سبتمبر.
وهو الامر الذي سيسارع بفرض الحلول الجزئية: هدنة طويلة في غزة مقابل تسهيلات حياتية اغاثية على الاغلب، حكم إداري ذاتي في الضفة، وتحويل القدس إلى “قضية مؤجلة”.
لذلك فإن انتصار إسرائيل في هذه الحرب سيفسر إقليميا بوصفه انتصارا على كل فكرة المقاومة، وعلى كل مشروع وطني غير تابع، لا في لبنان ولا في فلسطين ولا في غيرها. وسيفتح الباب واسعا أمام شرق أوسط جديد تديره تل أبيب بمعادلات القوة لا بالقانون، وبالدعم الأمريكي لا بالشرعية الدولية.
من هنا، أجد نفسي منحازا إلى رؤية وطنية فلسطينية مستقلة، لا تسقط في الاصطفاف الأعمى مع أي محور، ولا تقف صامتة أمام العدوان. هذه الرؤية، التي لطالما عبرت عنها منظمة التحرير الفلسطينية في مراحلها الناضجة، تقول: نحن مع استقرار المنطقة، لكننا ضد أن يتحقق على حساب حقوقنا الوطنية. كما اننا مع تجنيب شعوبنا الحروب، لكننا نرفض أن تستخدم تلك الحروب لتصفية قضيتنا. وأن الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي هو صراع سياسي تحرري مشروع، لا يقارن بأي صراع عابر أو موسمي.
في ضوء ذلك، فإن المطلوب فلسطينيا اليوم، هو أن نحفظ استقلالية موقفنا الوطني، وأن نعبر عن رفضنا لأي حرب توسعية تهدف لإعادة إنتاج الشرق الأوسط على مقاس الهيمنة الإسرائيلية.
وفي الوقت ذاته، يجب أن نحذر من أن تستخدم هذه الحرب كغطاء لتكريس الأمر الواقع في غزة والضفة والقدس، ولتحويل القضية الفلسطينية إلى تفصيل في معركة لا ناقة لنا فيها ولا جمل.
خلاصة القول ان فلسطين لا تنتصر بالوكالة، ولا تهزم بالتجاهل، لذلك اقول وبوضوح لسنا حلفاء لإيران، ولسنا خصوما لها. نحن شعب يسعى إلى الحرية، وكل من يقف معنا في هذا المسعى دون شروط مرحب به، وكل من يضعنا في جيب حساباته سنقف في وجهه.
نحن لسنا على هامش المعادلة، ولسنا في قلبها أيضا. نحن قضية مركزية، لكنها فقدت مركزيتها في عيون الكثيرين، إما بسبب التطبيع أو بسبب التوظيف الأيديولوجي. وهنا، تعود المسؤولية إلى القيادة الفلسطينية الرسمية، لتعيد الإمساك بالبوصلة، وتحمي وحدة الموقف الوطني، وترفض زج شعبها في أي حروب لا تخدم مشروعه، دون أن تسكت على عدوان إسرائيلي بات يسوق بوصفه “وقائيا” لا توسعيا.
وهنا اختم ان الصمت ليس حيادا، والانخراط ليس بطولة. والمطلوب اليوم، أكثر من أي وقت، أن نكون فلسطينيين فقط… لا أكثر، ولا أقل.