
من دفء العلاقات إلى برودة الشاشات.. ، بقلم : هدى زوين
في زحمة الحياة اليومية، وبين ضجيج المدن وازدحام الطرقات، نجد أنفسنا نعيش عصرًا يُسمى “عصر العولمة”، عصر السرعة والانفتاح، ولكنه أيضًا عصر التباعد رغم التقارب، والازدحام رغم الوحدة.
كانت الحياة سابقًا بسيطة، لكنها حقيقية. لم تكن العلاقات تُقاس بعدد الإعجابات أو المتابعين، بل بعمق المشاعر وصدق المواقف. كنا نلتقي، نتحاور، نضحك معًا، نختلف ونتصالح بقلوب مفتوحة. كانت المجالس عامرة بالحديث، وكانت الزيارات تُسجَّل في الذاكرة لا على الهواتف.
مع دخول العولمة، تبدّل كل شيء. أصبحنا نعيش حياة مزدوجة: واقع صامت، وعالم رقمي صاخب. تراجعت العلاقات الإنسانية أمام بريق التطبيقات، وانكمش الحوار داخل رموز ووجوه تعبيرية. قلّ التواصل الحقيقي، وكثرت الشاشات التي تفصلنا عن بعضنا، حتى ونحن في نفس المكان.
لم تعد الأسرة تجتمع كما كانت، ولم يعد الجار يعرف جاره، ولا الصديق يسمع صديقه كما ينبغي. صار الوقت موزّعًا على مهام لا تنتهي، بينما الأمان العاطفي والعلاقات الاجتماعية المتينة أصبحت من الرفاهيات.
المفارقة أننا كلما اتصلنا بالعالم أكثر، شعرنا بالوحدة أكثر. وكلما ازدادت وسائل الراحة، خسرنا جزءًا من راحتنا النفسية والاجتماعية.
أصبح الطفل يعرف أسماء المشاهير، لكنه لا يعرف اسم جدته. وأصبح اللقاء بين الأصدقاء مناسبة نادرة تُحدد سلفًا وتُنظّم وكأنها مؤتمر.
لكن رغم هذا التغيّر، لا تزال أمامنا فرصة. أن نعيد التوازن، أن نستخدم التكنولوجيا لا أن نُستَخدم بها. أن نفتح نوافذ الحوار الحقيقي داخل الأسرة، أن نسترجع البساطة، أن نمنح علاقتنا وقتًا واهتمامًا كما كنا نفعل يومًا.
فالقيمة الحقيقية في حياتنا ليست في سرعة الوصول، بل في عمق الوجود، في العلاقات الصادقة، والروابط التي تمنحنا المعنى والانتماء.
قد نعيش في عصر العولمة، لكن لا يزال بإمكاننا أن نحافظ على إنسانيتنا… إن أردنا.