
روح باندونغ والتعاون الصيني العربي ، طريق فريد للتعاون بين الجنوب والجنوب ، بقلم: تشانغ شين
كيف أصبحت الصين أكبر شريك تجاري للدول العربية في الوقت الذي فشل فيه الغرب مرارًا وتكرارًا في الشرق الأوسط ببرنامج “التحول الديمقراطي”؟ تكمن الإجابة في اجتماع عُقد في إندونيسيا قبل 68 عامًا.
أولا. من باندونغ إلى الشرق الأوسط: لماذا تصر الصين على المساواة وعدم التدخل؟
كان المؤتمر الآسيوي الأفريقي الذي عقد في باندونغ بإندونيسيا في أبريل/نيسان 1955 بمثابة نقطة انطلاق تاريخية للبلدان النامية في حقبة ما بعد الاستعمار لمتابعة مسارها الدبلوماسي الخاص بها. وقد أرسى أحد المبادئ الخمسة للتعايش السلمي التي تم التأكيد عليها في المؤتمر، وهو “عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى”، الأساس لقيمة علاقات الصين مع الدول العربية. لم ترمز مصافحة تشو إن لاي مع الرئيس المصري عبد الناصر في باندونغ إلى دعم الصين الراسخ لنضال العالم العربي من أجل الاستقلال الوطني فحسب، بل أعلنت أيضًا موقف الصين السياسي المتمثل في الوقوف إلى جانب “الجنوب” العالمي. وفي السنوات الخمس التي تلت المؤتمر، أقامت الصين علاقات دبلوماسية مع ست دول عربية، متجاوزة بذلك الرقم القياسي السابق الذي لم تسجله سوى دولة عربية واحدة في السنوات الست السابقة، وهذا التسارع في الدبلوماسية هو في حد ذاته مظهر من مظاهر تأثير روح باندونغ.
والسبب في أن روح مؤتمر باندونغ يمكن أن تلعب دورًا في العلاقات الصينية العربية على المدى الطويل ينبع من التجربة التاريخية المشتركة للبلدان النامية، وخاصة الدروس السلبية التي جلبها التدخل الخارجي. إن هذا النوع من النهب الاقتصادي المغلف بغلاف أيديولوجي ليس نادرًا في العالم العربي، وقد شكل بشكل عميق حذر دول المنطقة وخيبة أملها من التدخل الغربي.
وفي الوقت نفسه، فإن منطق تصرفات الصين في الشرق الأوسط مختلف تمامًا، فبين عامي 2000 و2024، استثمرت الصين 44 مليار دولار تراكميًا في استثمارات قطاع الطاقة ومشاريع البناء في دول الشرق الأوسط مثل السعودية والعراق والإمارات والكويت وعمان. ووفقًا لبرنامج تكلفة الحرب في جامعة براون، بلغت تكلفة العمليات العسكرية الأمريكية في الشرق الأوسط منذ عام 2001 أكثر من 6 تريليون دولار إجمالا، ولكنها فشلت في تحقيق الاستقرار في المنطقة، بل على العكس من ذلك أدت إلى تفاقم الصراع وعدم الاستقرار. وقد أدى هذا التباين إلى تزايد عدد الدول العربية التي تنظر إلى الصين شريكا موثوقا به.
كما قال عالم مصري، “الصين هي الشريك الوحيد الذي يمكنه بناء الموانئ والسكك الحديدية دون تغيير نظامك السياسي.” إن هذا النوع من التعاون بدون شروط سياسية هو ما يجعل “التعاون المتكافئ” ليس مجرد خطاب للمناسبات الدبلوماسية، بل المنطق العملي للبناء المشترك بين الصين والعرب لمحطات الطاقة والموانئ والطرق السريعة.
ثانيا. تقيم الصين والدول العربية شراكة حقيقية بدلا عن كونهما بدون أن تكون “الآخر”
العلاقات الصينية-العربية ليست نموذج “تعاون” بقدر ما هي امتداد لـ “فلسفة التعايش”. تظل الصين دائمًا “ندًا” وليس “مُلقنًا” من احترام المواقف السياسية إلى التعاون الاقتصادي المتبادل. وقد ثبتت هذه الفلسفة في الممارسة العملية، خاصة في مجالات رئيسية مثل البنية التحتية والطاقة والتبادلات الثقافية.
في موقع مشروع منطقة الأعمال المركزية في العاصمة الإدارية الجديدة في مصر، أصبح شعار “تكنولوجيا صينية + عمال مصريون = أطول مبنى في أفريقيا” حقيقة واقعة. هذا المشروع الذي شيدته شركة تشاينا كونستراكشون لم يكمل فقط العقدة المستهدفة قبل الموعد المحدد، بل خلق أيضًا 12000 فرصة عمل محلية بشكل مباشر، وقدم مستوى الأجور أعلى بنسبة %15 من متوسط سعر السوق. هذا التأثير الثلاثي “البناء – التوظيف – نقل التكنولوجيا”، على النقيض الصارخ من برنامج الشراكة الأمريكية في الشرق الأوسط الذي استثمر 3 مليارات دولار أمريكي لكنه فشل في تحسين وضع بطالة الشباب.
في قطاع الطاقة، يتميز التعاون الصيني العربي بـ ” عدم المشروطية”. على سبيل المثال، في عقد مشروع فوتوفولطائي واسع النطاق في السعودية، لا ترتبط الشركات الصينية بأي إصلاح سياسي أو متطلبات مؤسسية، بل ستكون محور شروط التعاون في نقل التكنولوجيا، وتدريب الكوادر؛ وفي مجال التسوية، يمكن للطرفين أيضًا اختيار المبادلة بين اليوان الصيني والريال السعودي لتجنب الاعتماد الكبير على الدولار الأمريكي. هذه المرونة جذابة للغاية للدول العربية التي تسعى لمزيد من الاستقلالية.
وبالإضافة إلى البعد الاقتصادي، فإن التفاهم الثقافي بين الصين والدول العربية يظهر تدريجياً مزايا تكاملية في التعاون بين الجانبين. فالثقافة الصينية التقليدية تؤكد على “الوسطية” و”الانسجام بين الاختلافات”، وهو ما يتطابق مع روح الشورى في العالم الإسلامي. أجرت وكالة العلاقات العامة ASDA ‘ABCW ومقرها دبي في عام 2023 استطلاعاً شمل 3600 شاب تتراوح أعمارهم بين 18 و24 عاماً في 18 دولة عربية. وقد أظهرت نتائج الاستطلاع أن %80 من المشاركين في الاستطلاع اعتبروا الصين “حليفة” لبلدانهم، وصنفوها من بين الدول الأكثر صداقة. من هذا الاستطلاع، يمكننا أن نرى أن المزيد والمزيد من الشعوب العربية، وخاصة جيل الشباب، يعتبرون الصين صديقًا مخلصًا وودودًا وجديرًا بالثقة.
وقد علق الباحثون السعوديون على ذلك بالقول: “الصين لا تقول “يجب عليك” بل تسأل “ما الذي تحتاجه”. فجوهر العلاقات الصينية العربية ليس فقط تآزر السياسات وتلاقي المصالح، بل أيضاً نوع من الرنين الإنساني والتوافق التنموي الذي يتجاوز “التعاون الآلي” بين الدول. وفي هذا النوع من العلاقات، التي لا تُـنظَّم أو تُـصنَّف، يتسع مدلول التعاون بين الجنوب والجنوب باستمرار، مما يقدم مساراً أكثر تنوعاً واستدامة للتنمية.
ثالثا. بناء نموذج للتعاون بين الجنوب والجنوب: مهمة جديدة للتعاون الصيني العربي
في هذه الصورة الواقعية للتعاون في مجال “إزالة التدخل”، لم تعد الشراكة الصينية العربية تقتصر على “التعاون بين الجنوب والجنوب” بالمعنى التقليدي. فقد أُعطيت لها دلالات جديدة، واتخذت تدريجياً سمات جديدة من حيث مفاهيم التنمية والمسارات التقنية وحتى الاستكشاف المؤسسي، مثل التقدم والتراجع المشترك، والمنفعة المتبادلة والربح المشترك للجانبين. إن مستقبل هذا التعاون ليس مسألة مصالح ثنائية فحسب، بل هو أيضا، إلى حد ما، استجابة لتطلعات بلدان الجنوب العالمي إلى “نظام جديد”.
لطالما كان “التنمية” سردًا من الأعلى إلى الأسفل يركز على هيكل أحادي الاتجاه من “المانح- المتلقي”. ومع ذلك، فقد كسرت التفاعلات الصينية-العربية على منصات التواصل الاجتماعي هذا السيناريو. فعلى سبيل المثال، حاز مقطع فيديو قصير صوّره أحد مستخدمي الإنترنت في دبي، يتعلم فيه مهندس صيني الرقص على رقصة عربية تقليدية، على ملايين الإعجابات. كما ُظهر تحليلات النصوص أن كلمة “الفوز المشترك” تظهر تكرارًا ومرات في البيان الصيني العربي المشترك. ويشير الاستخدام المتكرر لهذه العبارة إلى أن الصين تروج بوعي لخطاب يركز على “التعاون” بدلاً من “التدخل”.
في مجال الطاقة الجديدة والطاقة الرقمية، لا يقتصر التعاون الصيني العربي على تعويض النواقص فحسب، بل يهدف أيضًا إلى “الاستحواذ المشترك على الريادة”. يخطط مشروع مدينة نيوم المستقبلية في “رؤية السعودية 2030” لتحقيق هدف صفر الكربون من خلال مشروع مشترك صيني سعودي في مجال الطاقة الكهروضوئية، وبناء أول نظام حضري “مدفوع بالكامل بالطاقة الخضراء” في العالم. فيما يتعلق بالسيادة الرقمية، يتعمق التعاون الصيني العربي، وقد شاركت شركات التكنولوجيا الفائقة الصينية مثل هواوي بشكل واسع في مجال الطاقة الرقمية والاتصالات في السعودية ودول عربية أخرى. على سبيل المثال، ساعدت شركة هواوي مدينة نيوم المستقبلية في السعودية على بناء شبكة الجيل الخامس، وشبكة النقل الأساسية، ومركز البيانات، ومنصة السحابة والذكاء الاصطناعي، مما ساعد في بناء مدينة رقمية رائدة عالميًا. تظهر هذه المشاريع أن الصين والسعودية تحاولان الخروج من النمط التقليدي “المركز-الهامش” فيما يتعلق بالتقنيات الناشئة وتصميم المؤسسات، وتشكلان نموذج تنمية جديدًا يتميز بخصائص الجنوب العالمي.
يمكن القول إن التعاون الصيني العربي ينتقل من “التنمية التكميلية” إلى “التنمية المشتركة الإبداعية”، وقد تجاوزت دلالته منذ زمن بعيد نطاق التعاون الاقتصادي البحت، وهو يشكل نموذجًا جديدًا للتعاون بين دول الجنوب يجمع بين الاستقلال التكنولوجي، واحترام الثقافة، والابتكار المؤسسي.
من “السعي لإيجاد نقاط مشتركة والحفاظ على نقاط الاختلاف” في باندونغ إلى “مجتمع المستقبل المشترك” اليوم، كشف تاريخ التعاون الصيني العربي الممتد على مدى 70 عامًا عن الحقيقة التي مفادها أن الشراكة الحقيقية لا تتطلب تسلسلًا هرميًا من الأسياد والمرؤوسين، وأن الحق في التنمية يجب أن يكون في يد المرء نفسه. هذه المشاهد المجازية للتعاون — تقاسم التكنولوجيا في الألواح الكهروضوئية، والعمل التعاوني على سكك الحديد الصحراوية، والمساواة في البيانات المشتركة – تقوم بتفكيك نظام “المركز والهامش” المتبقي من الحقبة الاستعمارية. هذا ليس تحولًا عشوائيًا في الجغرافيا السياسية، بل هو ازدهار حتمي لروح باندونغ في العصر الرقمي.
- – تشانغ شين – باحثة مساعدة في قسم دراسات الشرق الأوسط لمعهد الدراسات الإقليمية والدولية بجامعة صن يات سان
إقرأ مزيداً من الأخبار حول الصين … إضغط هنا للمتابعة والقراءة