
في اليوم العالمي لحرية الصحافة: الكلمة رصاصةُ حق، والصمت خيانة ، بقلم: د. تهاني رفعت بشارات
في الثالث من أيار / مايو من كل عام، يتوقف العالم لحظة تأمل، ويصمت ضجيج الأخبار ليُفسح المجال لأصوات الحقيقة المكبلة، لأقلام لم تجفّ حبراً رغم الرصاص، ولصور التقطت الضوء في لحظة موت. إنه اليوم العالمي لحرية الصحافة، اليوم الذي يعرّي وجوه الزيف، ويعلي راية الكلمة في وجه الطغيان. وكما قال الروائي البريطاني جورج أورويل: «في زمن الخداع العالمي، يصبح قول الحقيقة عملاً ثورياً». فأن تكون صحفياً حراً في زمن القمع هو بحد ذاته بطولة، وأن تدافع عن المظلومين بحبرك هو أعظم أشكال المقاومة.
لقد اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة هذا اليوم في عام 1993، بناءً على توصية مؤتمر اليونسكو العام في عام 1991، التي جاءت استجابة لنداء أطلقه الصحفيون الأفارقة في إعلان ويندهوك، ليصبح هذا اليوم شاهداً سنوياً على نضال الصحافة في وجه القمع، وتذكرة للعالم أجمع بأن الكلمة الحرة لا تموت، وإن اغتيل صاحبها. ففي هذا اليوم، نقف احتراماً لأولئك الذين ضحوا بحياتهم لأجل أن نبقى مطلعين، لأجل أن لا تُطمس الحقائق، ولأجل أن تبقى الصحافة صوت من لا صوت له، ومرآة الشعوب في مواجهة كل أشكال الاستبداد.
وفي هذا السياق، لا بدّ من تسليط الضوء على أكثر الصحافات التي دفعت الثمن دماً وحصاراً وقتلاً: الصحافة الفلسطينية. ففلسطين، منذ أن عرفت القيد والاحتلال، كانت مسرحاً لأبشع الجرائم المرتكبة ضد الصحفيين. من شريف جردات إلى ياسر مرتجى، من أحمد أبو حسين إلى غفران وراسنة، ومن شيرين أبو عاقلة إلى آخر شهيد التقط عدسته قبل أن تلتقطه قذيفة الاحتلال. في غزة والضفة الغربية، لا يحمل الصحفي كاميرا فقط، بل يحمل وصيته، يعرف أن خروجه لتغطية العدوان قد يكون الرحيل الأخير، لكنه يذهب لأن صوته وصورة الحقيقة أهم من الخوف، وأبقى من رعب القنابل.
الصحافة الفلسطينية لم تكن يوماً محايدة أمام دم الأطفال، ولم تكن صامتة أمام قصف البيوت فوق ساكنيها. لقد كانت على الدوام شهيدة على المجازر، شاهدة على تفاصيل الإبادة الجماعية التي تُرتكب بحق أهل غزة والضفة. تغلبت على الجوع والقصف ونقص الكهرباء لتروي للعالم قصة شعب يُذبح على مرأى الجميع، بينما يحاول الإعلام المأجور طمس الحقيقة بلغة باردة لا تنصف الضحايا ولا تفضح الجلاد.
في هذا اليوم، لا نكتفي بالاحتفال ولا بالبكاء على من رحلوا، بل نجدد العهد بأن تبقى الكلمة حرة، والعدسة يقظة، والصحافة الفلسطينية في طليعة من يدافع عن الحقيقة مهما بلغ الثمن. هي ليست فقط مهنة المتاعب، بل مهنة الدماء، مهنة الدفاع عن الوجود، مهنة من لا يملك إلا الكلمة في وجه دبابات المحتل.
كل عامٍ وأحرار الصحافة بخير، وكل عامٍ وقضيتنا التي آمنت بها الكاميرات والميكروفونات لا تزال تنبض، رغم محاولات طمسها. كل عامٍ وأقلامنا أقوى من الرصاص، وأصواتنا أرفع من جدران الفصل العنصري.
وللشهداء من الصحفيين: أنتم حكايتنا التي لا تموت. أنتم بصمتنا التي لا تُمحى. أنتم العنوان الأوضح لحرية الصحافة في زمن الاحتلال والخذلان.