3:11 مساءً / 19 فبراير، 2025
آخر الاخبار

حين تطيب جراح الروح.. وداعًا يا أنت ، بقلم : د. تهاني رفعت بشارات

حين تطيب جراح الروح.. وداعًا يا أنت ، بقلم : د. تهاني رفعت بشارات

حين تطيب جراح الروح.. وداعًا يا أنت ، بقلم : د. تهاني رفعت بشارات

دمع، فتاة كُتب لها أن تتذوق مرارة الخذلان بأقسى صورة، لم تكن تعلم أن النقاء حين يُمنح بصدق قد يصبح عبئًا، وأن التضحية حين تُبذل بغير حساب قد تكون طريقًا للتيه. كانت تظن أن العطاء المطلق يذود عنها غدر الأيام، وأن الحب الصادق يشفع للعطاء بلا مقابل، لكنها لم تدرك أن بعض البشر لا يوقنون قيمة الأمن حتى يفقدوه، ولا يعرفون معنى الاحتواء حتى يضيع من بين أيديهم كحفنة رمل في مهب الريح.

ذات يوم، طرق أحدهم باب قلبها المرهف، وعدها بأن يكون العوض عن كل من خذلوها، بأن يكون السند حين تنهار الجدران، والظل حين يستعر الهجران. آمنت به كأنه معجزة هبطت من السماء، ووهبته كل ما تملك من صبر وحب واهتمام. كانت تصغي له كأنها تفسر نبضاته، وتدعو له بظهر الغيب كأنه جزء من روحها، حتى شُفي وتعافى واستقام على قدميه، لكنها لم تكن تعلم أن الرحيل سيكون أول قراراته بعد التعافي، وأنها ستكون مجرد جسر عبر عليه ليصل إلى ذاته.

حين احتاجته، كان أول الراحلين. لم يتريث لحظة، لم يلتفت خلفه، وكأنها لم تكن يومًا الدواء لجراحه، ولا الصدر الذي احتوى ضعفه، ولا اليد التي امتدت له حين سقط. كان رحيله قاسيًا، كطعنة لم تتوقعها من يدها التي أطعمت وسقت. حاولت أن تفهم، أن تستوعب، أن تجد تفسيرًا لهذا الجحود، لكن كل محاولاتها اصطدمت بجدار الصمت والتجاهل.

أدركت حينها أن كل شيء يحدث لسبب، وأن الدروس العظيمة تأتي على هيئة آلام موجعة، وأن الحب بلا عقل ضعف، والعطاء بلا حدود استنزاف. كان عليها أن تتعلم كيف تحب نفسها قبل أن تمنح الحب لغيرها، كيف تحترم ذاتها قبل أن تبحث عن احترام الآخرين لها، كيف تكون قوية بمفردها لا بحاجة لسند يُترك حين يميل الزمن.

انسحبت دمع من حياته برقي، لم تصرخ، لم تعاتب، لم تسأل عن أسباب الرحيل، لم تتوسل بقاءً لم يكن لها يومًا. احتفظت بماء وجهها، وابتلعت مرارتها، وقررت أن تكون نهايتها معه بداية لنفسها. مرضت، كادت تنهار، شعرت أن الحياة تتآمر ضدها، لكنها حين وضعت يدها على قلبها، وجدته لا يزال ينبض، وحين رفعت يديها إلى السماء، وجدت الله أقرب مما تصورت.

سامحته، لا ضعفًا، بل لأن قلبها لا يحمل أحقادًا، ولأنها قرأت أن المتخاصمين يجتمعون يوم القيامة، ولم ترد أن تراه مرة أخرى حتى في الآخرة. لم تسامحه لأنه يستحق، بل لأنها تستحق راحة القلب، تستحق ألا يثقل كاهلها بذكرى موجعة، تستحق أن تمضي دون قيد يربطها بماضٍ انتهى.

واليوم، لم يعد للجرح أثر، بفضل الله وحده شُفي تمامًا. لم تعد الندوب تؤلمها، ولم يعد القلب يستعيد وجعه حين تذكره. أدركت أن الإنسان أثر، وأن أعظم انتصار هو أن تكون ذا أثر رغم أذى البشر، أن تترك بصمة طيبة في حياة الآخرين، حتى لو لم يقدّروها، حتى لو قابلوا الإحسان بالجفاء، حتى لو رحلوا دون وداع. فالعطاء الصادق لا يضيع، بل يبقى شاهدًا على طُهر القلوب التي لا تزال تنبض بالنقاء.

وداعًا يا أنت، لأنك لم تعد أنا.


كتاب “إنما الإنسان أثر

شاهد أيضاً

عشرة قضاة جدد يؤدون اليمين القانونية أمام رئيس وأعضاء مجلس القضاء الأعلى

عشرة قضاة جدد يؤدون اليمين القانونية أمام رئيس وأعضاء مجلس القضاء الأعلى

شفا – أدى اليوم عشرة قضاة صلح جدد اليمين القانونية أمام رئيس وأعضاء مجلس القضاء …