
أفكار(2) مهارات التعامل مع ذوي مشاعر الاجهاد والضغط النفسي ، بقلم : د. غسان عبد الله
نظرا للحاجة الماسّة التي نعيشها وما فيها من ضغوطات، تنجم عن مصادر متنوعة : وضع سياسي مزري وما يرشح عنه من بطالة ، اختلال متواصل في العلاقات الاجتماعية ، انقسامات واقتتالات تقود الى دوام انحدار منسوب السلم الأهلي وأحيانا الغياب التام……الخ
عمدنا هنا الى اقتراح وعرض استراتيجيات للتعامل مع هذا الكم الهائل من الضغوطات اليومية وذلك من خلال ممارسة تمارين عمليّة دون اجهاد أو اضافة المزيد من الضغوطات . نتطلع من خلال هذه المحاولة الى توليد وشحن الشخص/ الأشخاص المستهدفين بتوجهات ومشاعر ايجابية بعد ممارسة هذه التمارين المقترحة ،فهي ليست عملا منفرا ،بقدر ما تبعث على التفاؤل وتثير الحافزية للابداع والتفكير الايجابي ، وذك بعد عرض الظرف/الحالة أو الوضع الذي يمر به الشخص والنتائج المصاحبة لمثل هذا الوضع .
كما سنحاول، تناول الانعكاسات السلبيّة ، سواء سلوكيّة أو صحيّة ،على الشخص الذي يعاني جراء الضغوطات النفسية المرافقة وكيفية، ان لم يكن الحد من تأثيراتها السلبية ،على الأقل التخفيف من حدّتها .
عانى، وما يزال، الشعب الفلسطيني ومنذ احتلال ما تبقى من فلسطين التاريخية عام 1967 ، على الانتهاكات الشنيعة التي قام ويقوم بها الاحتلال الاسرائيلي ،لكن دوام الحرب على غزة ،لا سيما حرب اكتوبر 2023 ،وما خلّفته من ضحايا ودمار هائل،ناهيك عن دوام الاجتياحات incursions للمحافظات الشمالية من الوطن المحتل، كل هذا ترك اّتارا وانعكاسات سيكولوجية سلبيّة بكل أنماطها ومسمياتها ( اّثار ما بعد الصدمة PTSD ، الانطواء / العزلة disassociation ، بدء التفكير / النزعة نحو الانتحار thinking of Suicide as an outlet, depression الاحباط، اللامبالاة ( indifference لدى مختلف الفئات العمرية والاجتماعية ،سواء ممن تعرضوا لهذه الممارسات مباشرة أو تابعوها عبر وسائل الاعلام المرئي والمسموع .
يجد كل واحد منا ذاته في حالة/حالات ضغوطات نفسيّة . البعض يمكنه التخلص أو تقليل اّثارها جراء خبرة ودراية مسبقة ، والبعض الاّخر ( الغالبية) تجد ذاتها أمام صخرة عاتية تعيقه من التقدم في حياته، ولو قيد أنملة ،وبالعكس تتراكم وتتزايد لديه المشاعر بمثل هذه الضغوطات النفسيّة والتي في أغلبها تكون غير جليّة للاّخر من حوله.
يعتبر الضغط/ الاجهاد النفسي احدى التحديات الرئيسة في حياة الانسان . للأسف ،هناك الكثيرون ممن لا يولون الأمر ألاهتمام المطلوب كما هو الحال في حالة الاعياء الجسماني ( المرض الفيزيولوجي). اذا ما تمكنا من تحديد اّلية / اّليات للتحكم باّثار الضغوطات النفسيّة هذه ، حتما سيكون هناك مردود وانعكاس ايجابي على الحالة الذهنية /النفسية للمرء فيما يخص التوتر anxiety، الاحباط depression وحتى مشاكل هضميّة .
لعلّ البدء بالذات ،هي الخطوة الأولى ،”اذ لا يمكن حل مشكلنا بنفس نهج التفكير الذي الذي عبّر عنه ألبرت اينشتاين في مقولته المشهورة-
“we can not solve problems with the same way of thinking we used to create them”.
ينبغي فهم ومعرفة الضغوطات النفسيّة : مصادرها ، أشكالها المختلفة ، الأعراض الفسيولوجية والذهنية للضغوطات النفسية حيث من المفيد التعرف على ذلك منذ بداياتها،وذلك وفق طرق عملية قابلة للتطبيق ،موزّعة على ثلاثة مجموعات : أساليب فسيولوجية ،اساليب للاسترخاء والراحة ، أساليب ذهنيّة، مع ضرورة اتاحة المجال لتدخلات من طرف/أطراف خارجية : معالج نفسي ، مرشد،مدرب في مجال التأمل ومقاومة الاجهاد النفسي، مع ضرورة الادراك المسبق أنه ليس من الضرورة الحصول على نفس النتائج لكل الأشخاص المستهدفين .
أنماط الضغوطات النفسيّة
⦁ من أخطر أنواع الضغط/ الاجهاد النفسي،الذي يكنى ب الاجهاد / الضغط النفسي الدائم والذي قد يكون حاد ولفترة قصيرة والمعروف بكنية ” fight or flight”.
من التغيرات السيكولوجية التي تحدث في الجسم سرعة دقات القلب ، ارتفاع الضغط،تنفس سريع ،تشنج العضلات، سرعة تدفق الدم بمعدل الضعف أو تراجع في وصول الدم الى الخلايا الجلدية ،جفاف الفم ،جلد بارد). اضافة الى التغيير في القدرات الفسيولوجية ،حيث يزداد نشاط القدرات الذهنية، وتنشط خلايا الدماغ بسرعة أكبر .
عادة ما تكون الحالات الموسمية للاجهاد غير ضارّة للأشخاص الأصحاء ،اذ بعد زوال الحالة الموسمية هذه،يبدأ الجسم بالهدوء وقد يحتاج الى قرابة 20 دقيقة للعودة والاستقرار ، أي العودة الى الوضع الطبيعي، شريطة عدم التعرض الى مصدر /مصادر ضغط نفسي جديدة .
⦁ الاجهاد النفسي طويل الأمد long-term stress ، عادة ما يتسم بطول الفترة الزمنية مع نوبات عصبية شديدة متنوعة وغير ملحوظة ، ينجم عنه معاناة شديدة للشخص ، الأمر الذي يتطلب ضرورة المراقبة عن كثب ، حيث يمكنّنا ذلك من اتخاذ خطوات فورية للسيطرة على مثل هذه النوبات العصبية قبل تفاقم نتائجها السلبية.
حين يدرك ويقّر الشخص بوضعه كقوله : “أواجه ضغوطات عالية في مكان عملي” ” أخشى أن تخرج الأمور عن السيطرة ” ” كان يومي صعب ومرهق”…. ،يمكننّا هنا من تحديد الاسلوب /الأدوات الممكن توظيفها لتهدئة الوضع وبالتالي الحد من نتائج وانعكاسات وخيمة قد تصبح أكثر تعقيدا اذا ما طالت فترتها الزمنية، لا سيما في حالة عدم تلقي المساعدة اللازمة والعمل على احداث تغيير في الاتجاهات والتفكير حيال الوضع .
العواقب الوخيمة للاجهاد النفسي
في حال ارتفاع منسوب الاجهاد النفسي تظهر علامات الارهاق ، الاحتراق الشخصي ، الاحباط واضطرابات سلوكية وأعراض مرضية مرتبطة بالحالة النفسيّة ( psychosomatic illnesses )، ألم في البطن ، قرحة المعدة ، نوبات قلبية ……، مع ادراك أن حدة هذه الأمراض تتفاوت من شخص الى اّخر .
يتجلى الارهاق حين يتعرض الشخص الى أعباء شاقة ولفترة طويلة ، أما الاحتراق الشخصي فهو نتيجة حادة لا يمكن علاجها فقط بالراحة الجسدّية، اذ قد يضطر الشخص الذي يعاني من الاحتراق الوظيفي الى تغيير عمله/مهنته أو بيئة العمل هذه. من العوامل الرئيسة التي قد تؤدي الى الاحتراق الوظيفي : قلة الدافعية/ الحافزية للعمل ذاته ،عدم القناعة الكافية بنوعية العمل ومخرجاته ،ارهاق مزمن ،تنامي مشاعر سلبية حيال العمل ،فقدان الطاقة اللازمة للعمل و جفاء العلاقات في بيئة العمل ،ولن ننسى عدم الكفاءة بما يتناسب مع طبيعة العمل .
بخصوص الشعور بالاحباط depression فهوأشد فتكا من الاجهاد والاحتراق الوظيفي، كونه يدوم لفترات طويلة ،ومن مسبباته :دوام الحزن ،اليأس وعدم الاهتمام، تلاشي الاهتمام بالأشياء ،الشعور بالنقص والذنب ،اضطراب في التركيز ، دوام التفكير في عدم الجدوى والفائدة من الحياة ،اضطرابات في النوم ،فقدان الشهيّة ، دوام الشعور بالتعب واّلام جسديّة،تدني الشعور بالرغبة الجنسية، الانسحاب من الأجواء الاجتماعية ،امحلالفي الانتاج.
⦁ الاضطرابات العقلية mental disorders حيث تبدأ المعاناة من أمراض نفسيّة جسمانية Psychosomatic diseases لها ارتباط وثيق بالاجهاد النفسي ،من هذه الأمراض التي لها علاقة بالقلب: سكتات قلبية ،ارتفاع ضغط الدم ،جلطات ،صداع نصفي
هناك أمراض لها علاقة بالجهاز الهضمي : قرحة المعدة ، الاسهال ،أيضا هناك أمراض مرتبطة بالمفاصل والعضلات كالصداع ، انقباض في العضلات ، ألم في غضاريف الرقبة وألم في الظهر ،و أمراض أخرى نذكر منها : عدم توازن افراز الهورمونات، أمراض الغدة الدرقية ،السكري ، السرطان ، الحساسية،الرشح والانفلونزا ،مشاكل جنسية وجلدية.
الأعراض الفسيولوجية للاجهاد النفسي:
صداع ،تكرارالدوخة والغثيان ،قضم والشدّ على الأسنان ، الرجفة ، نمنمة الأطراف ، اضطرابات في الشهيّة ،فقدان الشهوة الجنسية ، عرق وجفاف الحلق وغيرها من الأعراض.
هناك أعراض ذهنية للاجهاد النفسي مثل ضعف القدرة على التركيز والتذكر ،عدم القدرة على اتخاذ القرارات ، فقدان الشعور بالمرح والمزاج المتزن ،سريع الانفعال ،قلق بدون سبب ،خلل في القدرة على تنظيم وترتيب مهام العمل ، شعور بالدونيّة ،تذبذب في مهارات الاتصال والتواصل ، النقد الزائد لكل شيء ، الشعور بعدم الفائدة للاشياء ,نقص الاهتمام بالأمور الصحيّة والغذائية.
مصادر الاجهاد: هناك مصادر داخلية وأخرى خارجية بيئية .
مصادر خارجية للاجهاد : الشعور بخطر داهم ،تكرار التغيرات الطارئة، تكليف الشخص بأعمال أكثر من نطاق قدراته،غياب بيئة مشجّعة ، ظروف غير مرغوب بها ،مشاكل في مكان العمل، مشاكل ناجمة عن العلاقات البشرية،زوجية كانت أم قرابة،صداقة أو زمالة.
بخصوص العوامل الداخلية للاجهاد النفسي، فتبدأ بالخلفية العائلية للوالدين ” ابحث لولدك عن خال “” غربوا النكاح” . هناك عوامل نفسيّة متنوعة قد تبدأ من الاسم / اللقب الذي يمنحه الوالدين للمولود ونعته بأوصاف لها انعكاساتها الايجابية أو السلبية، الشعور بعدم القدرة على الانجاز ، عادات عاطفية سلبيّة ( القلق الزائد، الشعور بعدم الأمان ، الشعور بالذنب ، الميل للرد بغضب وانفعال و بوجل وخوف ، بلاهة في الردود العاطفية ، الميل الى تعميم النواحي السلبية أو اظهار الاهتمام بشكل مبالغ فيه، تشوه في الاستيعاب،انكار وتدني تقدير الذات، مشاكل داخلية،عدم تقبل الحقيقة والعيش في تناقضات، مما يجعل من الاجهاد النفسي بمثابة نمط حياة دائم .
بالطبع،هناك ظروف بيئية محيطة،تؤدي الى الاجهاد،مثل : العزلة الاجبارية ،تطفل الاّخرين ،مساحة غير كافية للعيش بها، الضجيج من مصادر خارجية – مصنع ،ورشة عمل، عدم نظافة مكان الاقامة – عيش أو عمل،مرض أو جروح.
رغم ذلك ،تبقى هناك الفرصة للتغيير : تغيير البيئة المحيطة أو الانسحاب منها وتركها والبحث عن الأفضل حرصا على ضرورة الموائمة بين القدرات المتاحة والاحتياجات اللازمة ،بعيدا عن المبالغة وأحلام اليقظة ، وفقا للمقولة اذا أردنا تغيير النتائج ،علينا أولا تغيير الظروف .
يقودنا هذا الى نماذج ضبط الاجهاد النفسي بالاعتماد على التركيز وتحديد أهداف ضبط هذا النمط من الاجهاد.
⦁ هناك نمط الضبط القائم على التركيز على المشاعر والأفكار (subjective Stress Management) للوصول الى الهدف المنشود من خلال توظيف اّليات التهدئة الذاتية ومن ثم الانتقال الى الخطوة الثانية التفكير بالحل أو الحلول ،مع الأخذ بعين الاعتبار عامل الزمن المتاح
⦁ هناك تكتيك اّخر لضبط الاجهاد النفسي ،والمسمى الاجراء الوقائي (Preventive stress Management ) والذي من خلاله نسعى الى منع حدوث الاجهاد النفسي من خلال أنشطة وفعاليات وتدريبات هادفة من شأنها ليس فقط التغلب عليه، بل وأيضا منع حدوثه، وتحسين ميكانزمات مقاومته، والتي تبدأ بالاقرار بوجود أعراضا لهذا النمط من الاجهاد والعمل على التعرف لكشف مصادره والظروف التي نما بها مع مباشرة العمل لمواجهة العوامل الذاتية لهذا الاجهاد النفسي.
يتطلب هذا تداخل مهارات عدّة مثل : التحكم بالوقت ،مهارة تحديد الهدف ،مهارة تطوير استراتيجية العمل ،مهارة التواصل مع الذات ومع الاّخر ،مهارة القدرة على التعامل مع الشخصيّة المزاجية كما تناولنا هذا سابقا،مهارة ضبط انفعالاتنا وتوظيف الطاقة لدينا لتحويل الاجهاد الى اعداد المهام investing in stress to prepare for tasks ،البحث والحفاظ على الامور الايجابية ، ولعلّ الرياضة الجسمانية والروحية والاسترخاء وتوظيف الفنون- موسيقى ،رسم، خير ملاذ ، اضافة الى توظيف تمارين التنفس العميق –شهيق وزفير، تمارين التخيل/ التأمل / التخيل Imagination واليوغا ،ممارسة الأعمال اليدوية .
للتقليل من حدة الفشل في عدم القدرة على القيام بكل ما ورد أعلاه،علينا :-
⦁ دوام التهيؤ والاستعداد لحدوث الأمور السلبية
⦁ دوام عدم رفع سقف التوقعات
⦁ دوام التركيزعلى الجوانب الايجابية
⦁ دوام عدم الميل الى التشكيك لما يحدث من تخبط وارتباك .
⦁ العمل على ايجاد استراتيجيات لمواجهة النتائج السلبية : هل لي أعتبارها فرصة للتحدي،مما قد تولد لدي شعورا ايجابيا/سلبيا ، هل هي فرصة للتحفيز أم التثبيط!!
⦁ العمل بأقصى طاقة لضبط المشاعر السلبيّة ودوام محاولة مجابهة مشاعر الخوف والشعور بالذنب
⦁ اياك أن تعتبر طلب المساعدة والذهاب الى معالج نفسي للمشورة أو تحديد جلسات علاجية ، بمثابة نقص أو عيب taboo خشية من الوصمة الاجتماعية social stigma .
إقرأ : أفكار (1) بلورة استراتيجيات للتعامل مع الشخصيّة المزاجية – القنبلة الموقوتة ، بقلم : د. غسان عبدالله
إقرأ المزيد حول د. غسان عبد الله