1:50 مساءً / 7 أكتوبر، 2024
آخر الاخبار

نظرية الأخلاق.. جون ديوي ، بقلم : سامية الديك

سامية عمر الديك - دكتوراة في القيادة والإدارة التربوية - جامعة القدس

نظرية الأخلاق.. جون ديوي ، سامية الديك

تُعد الأخلاق عماد المجتمع وأساسا لاستقامته وركنا أساسيا من أركان الوجود الاجتماعي ونسقا حيويا في نسيج الحياة الانسانية فهي نظام من القيم يوجه حياة الفرد وينهض بها الى أرقى مستوياتها الانسانية، فتجسيد القيم والفضائل جوهر الحياة الأخلاقية وغايتها، وعليه تولي المجتمعات أهمية بالغة للأخلاق لأن غيابها أو تدهورها يؤدي الى تصدع المجتمع وانهياره فتغيب عنه مظاهر الانسجام والوحدة والتماسك والقوة ويعم به الفساد وينزلق في وحل التخلف الثقافي والحضاري مفتقرا لصمام الأمن والأمان.

وفي ظل العولمة والانفتاح على الثقافات وغياب الرقابة على وسائل الاعلام ووسائل التواصل الاجتماعي وانتشار أعراف وعادات غير سوية في البيئة والمجتمع، بات تعزيز منظومة الأخلاق عند النشء ضرورة ملحة في الاسرة وفي المدرسة لدورها الهام في تنمية القيم في بيئة ديمقراطية تحرص على نمو متعلميها نفسيا واجتماعيا وفكريا واخلاقيا.

فالنمو المستمر غاية التربية والتعليم، وبناء الطبع أو الخلق هدف شامل من أهداف التعليم والانضباط المدرسي وفق ما دعا له جون ديوي أحد أبرز الفلاسفة ومؤسسي الفكر البراغماتي الأميركي الذي نادى بضرورة تخفيف حدة التوتر في الحياة الاجتماعية السائدة بجعل البيئة مصدرا أداتيا لغرس المعايير الأخلاقية في النفوس البشرية.

وهدفه تغيير القيم في المجتمعات الانسانية باتخاذ الفكر أداة للعمل على نحو یحقق للإنسان ما یبتغیه. فقد كان دیوي یؤمن بان كل شيء في حیاة الإنسان قابل للتغییر إن دعت الضرورة إلى تغییره ولا یجوز أن یقف شيء حائلا في وجه الإصلاح. واعتبر التربیة موروث ثقافي وعملیة تجدد وحياة واهتمام بحاضر المتعلم ومستقبله أو أنها “النمو” أو أنها التوجیه الاجتماعي. ويرى أن أهم مشكلة للتربية الخلقية في المدرسة تتصل بالعلاقة بين المعرفة والسلوك فاذا التعلم الذي يتم من خلال المقرر الدراسي المنتظم لم يكن مؤثرا في الطبع فلا جدوى من تصور الغاية الخلقية كغاية توحد التربية وتتوجها. وهنا يكمن السؤال كیف كان ”جون دیوي” ینظر إلى الأخلاق؟

اعتمد في شرحه لنظریته الأخلاقیة على ثلاثة مقاصد: اولها ان الأخلاق إنسانیة وثانيهما ان الأخلاق ظاهرة اجتماعية وأن المنفعة العملية هي مقياس الحق من الباطل بما يترتب عليها من آثار في السلوك تسهم في حل المشاكل القائمة أو في النمو، وهذا هو معيار الحقائق ومقياس القيم جميعا. ويعد الاتصال والتغيير المستمر الناشئ عن الخبرة مقياس الخير ومعاييره. وأن التجربة أو الخبرة الواعية للإنسان هي المقياس الوحيد للوجود المادي او “التقويم” ويرى انه إذا كانت موازين الأخلاق منحطة فذلك ناشئ من نقص التربية التي يتلقاها الفرد في تفاعله مع بيئته الاجتماعية، فالأخلاق ليست اجتماعية فقط في نظره بل تمثل عنده مسؤولية وانجازا فرديا”.

وهنا يمكن القول أن الإنسان يتأثر بأخلاق مجتمعه لكن سرعان ما نجد أنه يشق طريقا خاصا به ويصبح سيد أخلاقه. فالعقل أداة لترقية الحياة وليس وسيلة للمعرفة، وجوهرالعمل قائم بحرية الافراد وتحملهم المسؤولية الأخلاقية. وأن التفكير أداة للسيطرة على البيئة، وهذه السيطرة تتم عن طريق أفعال، فالتربية ليست إلا استجابة لما يحدث في المجتمع فكيف يمكن لها أن تحقق أبعاد اجتماعية ؟

لتحقيق ذلك لا بد من التركيز على دور المدرسة وجعل بيئتها تتسم بالحيوية والواقعية تتيح التفاعل للفرد وبيئته لاكتساب خبرة التعلم، والاهتمام بالصفات التي تنمي المتعلم كصفات الخلق، وتوجيه ميول النشىء، وتعزيز التعاون والتواصل، وجعل التعلم فيها متصلا ومطردا مع التعلم في الخارج لأن انعزالها يجعل المعرفة غير قابلة للتطبيق على الحياة وعقيمة من حيث تكوين الطبع او الخلق فالانضباط والثقافة والفاعلية الاجتماعية سمات خلقية وعلامات ان الفرد عضو قيم في مجتمعه وشأن التربية أن تحرص على تقدمه.

ويرى أن موضوع الأخلاق هو سلوك الناس “اذ يقوم بتحليل الطبيعة البشرية وفق ثلاث اسس وهي الدافع والعادة والذكاء وثالثا يعتبر الأخلاق بأنها یمكن بحثها علميا وضبطها وتوجيهها كما تبحث سائر العلوم الطبیعیة، وان البحث ذا الطابع الأخلاقي، أساس لكل تقدم إنساني ومصدر خصب للنمو البشري، ولتجدد المستمر للقيم.

اذ يعلي من شأن العقل والمعرفة والتواصل الفكري، ” فيقول إن معظم القيم الاخلاقية والميتافيزيقية والدينية التي دخلت في تكوين تراث الانسان الحديث، انما هي في اصلها قيم انحدرت من العلم، والبحث والذكاء، وكان دور البحث هو اضفاء النظام والاتساق على الخبرات التي كانت في الأصل متصارعة متنافرة” وعليه نستنتج أن نظرة البراغماتیة نظرة مادیة ترى الأخلاق طبيعية ومن خلق الإنسان وكده، ونشأتها تجریبیة بحتة غير خاضعة لأي قوة علیا.

وهي متطورة ومتغیرة لا ثابتة وليست قائمة بالقواعد التي لابد من تطبيقها مثلما نطبق الوصفات الطبية او طرق الطهي فعدم ثباتها يعود بفضل خلق الإنسان وتجربته في الحیاة وتبعا للظروف و المواقف والمصلحة والمنفعة إلا أنها يجب أن تكون موافقة للرأي العام.. فتحقيق الخير او الاصلاح لا يكون الا بامتزاج بين القوى الداخلية للانسان والخارجية.

فالقيمة هي كل ما له سلطة في توجيه السلوك وان الشر عنده ليست مشكلة لاهوتية ولا ميتافيزيقية بل عملية، والأخلاق والخيرية عنده تتخذ طابعا شموليا، فلا فرق عنده بين خير الفكر، وخير السلوك، ذلك ان الفاعلية الإنسانية وحدة لا تتجزأ ويرى انه لا توجد غايات أخلاقية إلا حينما يكون هناك عمل، وطالما أن هناك حاجة للعمل فهناك شرور، وبالتالي فان الخير الذي يتطلبه الموقف لا بد أن يتخذ صورة نسق أخلاقي يكون علينا الاهتداء إليه في ضوء العيوب الحالية وقام بإعادة بناء الأخلاق، ونظرية المعرفة على أساس نزعته التجريبية الطبيعية، فكل أحكام القيمة والأخلاق لا بد أن توضع على قاعدة من العلم ونادى بضرورة ان تبدأ الأخلاق من الواقع ورفض القول بالخير المطلق أو الشر المطلق.

وبين أن الاخلاق معنية بالسلوك ونقد التفرقة الحاسمة بين دوافع العمل وعواقبه وبين الاخلاق والسلوك. فعارض مذهب اللذة الحسية الذي اعتبر امتلاك المثل العليا السائدة جوهر الاخلاق وان لم تشكل قوة دافعة في العالم.. وعارض مذهب المنفعة التي ترى أن المهم خلقيا ليس ما هو بداخل وعي الانسان بل ما يفعله او يصنعه او العواقب التي تصدر عنه ، لأن ما يدفعنا للعمل ليس الربح والخسارة، وإنما القضاء على التعقيدات القائمة لاحداث انسجام مع البيئة .

واكد على مهمة التروي والتبصر في تقدير مسالك العمل. من هنا نرى أنه لا بد من توفر نشاط متعاقب يجسد اهتمام الطالب بحيث تنجم عنه نتيجة محددة لا يكفي لاحداثها العادات الروتينية والارشادات المملاة ولا التصرفات التخمينية المرتجلة بل لا بد من القيام بهدف واع ورغبة واعية وتفكير متدبر. فالذات والاهتمام او المصلحة اسمان لواقعة واحدة عند جون ديوي، ويرى ان الانسان يجعل من مجابهة التحديات والصعاب والتغلب عليها مثار اهتمامه. ونقد النظريتان المرتبطتان اساسا بفصل المعرفة عن النشاط وبالتالي عن الاخلاق وهما النظريتان اللتان فصلا الاستعداد الداخلي والدوافع (العامل الشخصي الواعي) عن الافعال (العامل الخارجي المادي الخالص) وتقابل العمل بدافع المصلحة عن العمل بناء على مبدأ .

وفي ضوء ما سبق لا بد للتعلم ان يكون مصاحبا للانشطة ذات الهدف الاجتماعي لتغدو المدرسة صورة من الحياة الاجتماعية ومجتمعا مصغرا ذا تفاعل وثيق مع الالوان الاخرى من الخبرة الاجتماعية خارج جدران المدرسة.

وكل تربية تنمي القدرة على المشاركة في الحياة الاجتماعية هي تربية خلقية لانها تشكل الطبع الذي يتيح التكيف المطرد الذي هو امر جوهري للنمو. فالاهتمام بالتعلم من بين كل اتصالات الحياة هو الاهتمام الخلقي الجوهري، فمن يجعل الخلقيات مسألة لا علاقة لها بالمعرفة أو جعل الضمير مختلفا عن الوعي يجعل من التربية الخلقية بالمدرسة أمرا ميئوسا منها عمليا يهبط بها الى نوع من التعليم التلقيني الجامد او دروس أخلاق لا تغدو فضائل وواجبات لا تؤثر الا في مجموعات اجتماعية نظرا لتنمية الطبع او الخلق وجعله غاية عليا وفي الوقت نفسه جعل اكتساب المعرفة وتنمية الفهم يشغلان الجانب الاكبر من وقت المدرسة وعلينا أن ندرك أن الخير لا يتحصله الانسان من الكتب ولا من الاخرين بل عن طريق التربية طويلة الامد فهي الثمرة النهائية التي تتوج الخبرة الناضجة بالحياة وان المعرفة قد تجد ثمرتها المباشرة في السلوك فلا بد من الحرص على وجود ارتباط حيوي بين المعرفة والنشاط لتغدو معرفة خلقية تبني اهتماما اجتماعيا وتمنح الذكاء المطلوب لجعل الاهتمام مجال الممارسة.

فالاخلاق تتعلق بالطبع بأسره والطبع بأسره هو الانسان بكل مكوناته وامتلاك الفضيلة لا يعني ان يكون لك بضع سمات دون سواها بل معناه تكوين ارتباط اجتماعي مع الاخرين في كل مهام الحياة.

وختاما نقول ان هنالك قول قديم مفاده انه لا يكفي ان يكون المرء صالحا بل يجب ان يكون صالحا لشيء ما وهذا الشي ما الذي يجب ان يكون المرء صالحا له هو القدرة على الحياة كعضو اجتماعي بحيث ان ما يحصل عليه من الحياة مع الاخرين يتوازن مع ما يسهم به وما يأخذه ويعطيه ككائن بشري ولا بد من تعزيز التربية التي هي الحياة وتعزيز القدرة على مثل هذه التربية هو جوهر الاخلاق فالحياة الواعية هي التجدد المتصل دوما.

سامية عمر الديك – دكتوراة في القيادة والإدارة التربوية – جامعة القدس

شاهد أيضاً

منى ابو حمدية

نابلس : بذور للتنمية والثقافة تنظم حفل اشهار ديوان شعر ” سديم الحياة ” للشاعر نسيم خطاطبة

شفا – نظمت جمعية بذور للتنمية والثقافة في نابلس حفل اشهار ومناقشة ديوان ” سديم …