
من إعادة هندسة التخصصات إلى إعادة بناء المستقبل: ماذا يمكن لفلسطين أن تتعلّم من التحول الصيني في التعليم العالي؟ بقلم: الدكتور عماد سالم
لم يعد التعليم في عالم اليوم قطاعاً خدماتياً تقليدياً، ولا مجرد مسار للحصول على شهادة جامعية، بل تحوّل إلى أداة سيادية لإنتاج القوة الاقتصادية والمعرفية والتكنولوجية. الدول التي أدركت هذه الحقيقة مبكرًا أعادت تعريف دور الجامعة، ووظيفة التخصص، وعلاقة التعليم بالاقتصاد، وبسوق العمل، وبمشروعها الوطني الشامل.
في هذا السياق، تبرز التجربة الصينية بوصفها واحدة من أكثر التجارب جرأة ووضوحاً في ربط التعليم بمسار النهضة الشاملة. فالصين، في إطار خطتها القومية لبناء “دولة قوية في التعليم” بحلول عام 2035، لم تكتفِ بإصلاح المناهج أو تحسين الجودة، بل شرعت في إعادة هيكلة جذرية لخريطة التخصصات الجامعية، باعتبارها مدخلًا استراتيجيًا لإعادة تشكيل الاقتصاد والمجتمع.
وقد أعلنت وزارة التعليم الصينية أنه خلال الفترة (2023–2025) تم:
⦁ إضافة أكثر من 3229 تخصصًا جديدًا في الجامعات، معظمها في المجالات العلمية والهندسية والتكنولوجية المتقدمة،
⦁ مقابل إلغاء أو دمج 2534 تخصصًا تقليديًا لم تعد منسجمة مع متطلبات السوق والابتكار،
⦁ إلى جانب توجيه نحو 40% من طلبة الجامعات نحو التخصصات العلمية والهندسية، ضمن خطة قومية كبرى تهدف إلى بناء قاعدة بشرية قادرة على قيادة النهضة الصناعية والتكنولوجية للصين.
هذه الأرقام لا تعكس مجرد إصلاح أكاديمي، بل تعبّر عن تحول استراتيجي في فلسفة التعليم ذاتها، وهو ما يفتح الباب أمام سؤال جوهري في السياق الفلسطيني:
كيف يمكن الاستفادة من هذه التجربة لبناء نموذج وطني يعيد توجيه التعليم نحو الإنتاج، والتنمية، والصمود؟
التعليم في التجربة الصينية… من المعرفة إلى القوة الإنتاجية
تتعامل الصين مع التعليم بوصفه جزءاً من منظومة اقتصادية متكاملة، وليس قطاعاً منعزلاً. فالجامعة هناك ليست مؤسسة معرفية فقط، بل حلقة أساسية في سلسلة القيمة الوطنية التي تبدأ بالبحث العلمي وتنتهي بالتصنيع والابتكار والتصدير.
ولهذا السبب:
⦁ يُعاد تصميم التخصصات وفق احتياجات الاقتصاد المستقبلي لا الماضي.
⦁ تُربط الجامعات بمراكز الابتكار والمناطق الصناعية.
⦁ يُعاد توجيه التمويل العام نحو البرامج ذات القيمة المضافة.
⦁ يُعاد تعريف نجاح الجامعة بمدى مساهمتها في التنمية لا بعدد خريجيها فقط.
إن قرار إضافة آلاف التخصصات الجديدة مقابل إلغاء أخرى تقليدية يعكس انتقالاً من منطق “التعليم من أجل الشهادة” إلى منطق “التعليم من أجل الإنتاج والابتكار”.
التخطيط بدل العشوائية… جوهر التحول الصيني
أحد أهم دروس التجربة الصينية هو الانتقال من إدارة التعليم بالعرض إلى إدارته بالتخطيط الاستراتيجي طويل المدى. فإعادة هيكلة التخصصات لم تكن عشوائية، بل قامت على:
⦁ تحليل وطني شامل لسوق العمل.
⦁ استشراف مهارات المستقبل لعقود قادمة.
⦁ تحديد قطاعات ذات أولوية قومية.
⦁ ربط الاعتماد والتمويل بنتائج التوظيف.
⦁ توجيه الطلبة عبر السياسات لا الخطاب فقط.
وهذا ما تفتقده الحالة الفلسطينية إلى حدٍّ كبير، حيث ما زالت التخصصات تُفتح أو تُغلق بقرارات مجزأة، ومن دون مرجعية وطنية موحدة، أو ربط حقيقي بين التعليم والاقتصاد.
ماذا تقول هذه التجربة لفلسطين تحديداً؟
في السياق الفلسطيني، لا يمكن النظر إلى التعليم بمعزل عن واقع الاحتلال، وضعف القاعدة الإنتاجية، وارتفاع البطالة، خاصة بين خريجي الجامعات. لذلك فإن إعادة توجيه التعليم ليست ترفاً فكرياً، بل ضرورة وطنية وتنموية.
إن التجربة الصينية توصل رسالة واضحة مفادها أن:
لا تنمية بلا قاعدة إنتاجية، ولا قاعدة إنتاجية بلا تعليم موجَّه ومخطط.
وعليه، فإن التعليم في فلسطين ينبغي أن يتحول من مسار استهلاكي إلى أداة فاعلة في:
⦁ تقليل التبعية الاقتصادية
⦁ خلق فرص عمل حقيقية
⦁ تعزيز الاقتصاد المحلي
⦁ دعم الصمود المجتمعي
⦁ بناء رأس مال بشري منتج
نحو خريطة وطنية فلسطينية للتخصصات
استلهاما ًمن النموذج الصيني، يمكن بلورة تصنيف وطني فلسطيني للتخصصات يقوم على ثلاثة مسارات رئيسة:
- تخصصات استراتيجية مستقبلية (تُوسع وتُدعَم)
تشمل مجالات ذات علاقة مباشرة بالتحول الرقمي والاقتصاد الأخضر، مثل:
⦁ الذكاء الاصطناعي التطبيقي
⦁ الأمن السيبراني
⦁ تحليل البيانات
⦁ الطاقة المتجددة
⦁ تكنولوجيا المياه
⦁ الزراعة الذكية
⦁ الصناعات الغذائية
⦁ الميكاترونكس
⦁ الصيانة الصناعية المتقدمة
⦁ التقنيات الطبية المساندة - تخصصات قابلة لإعادة الهيكلة والدمج
بدل إلغائها، يُعاد تصميمها وربطها بالتطبيق العملي وسوق العمل، مثل:
⦁ الإعلام → إعلام رقمي وصحافة بيانات
⦁ علم الاجتماع → سياسات اجتماعية وتنمية محلية
⦁ الإدارة → ريادة أعمال وإدارة مشاريع
⦁ التربية → تعليم رقمي وتعلّم مهني
⦁ الآداب → ثقافة رقمية وصناعات إبداعية - تخصصات مشبعة تتطلب وقف التوسع المؤقت
وهي تخصصات تحتاج إلى ضبط القبول فيها، وربطها بحاجات فعلية، وتقييم مخرجاتها بشكل دوري، خصوصًا تلك التي تعاني من فائض خريجين وضعف فرص التشغيل. - التعليم والتدريب المهني والتقني بوصفه رافعة التحول
تؤكد التجربة الصينية – كما الألمانية والكورية – أن العمود الفقري للاقتصاد المنتج هو نظام قوي للتعليم والتدريب المهني والتقني (TVET).
وفي الحالة الفلسطينية، يمكن لهذا القطاع أن يشكل:
⦁ المدخل الأسرع لمواجهة البطالة
⦁ الجسر الحقيقي بين التعليم وسوق العمل
⦁ رافعة لإعادة بناء الثقة بالتعليم المنتج
لكن ذلك يتطلب:
⦁ حوكمة وطنية واضحة وفاعلة للقطاع
⦁ شراكات حقيقية مع القطاع الخاص
⦁ تحديث المهن والتخصصات
⦁ توسيع التدريب التعاوني
⦁ بناء مسارات انتقال مرنة بين المهني والأكاديمي
البعد الثقافي والهوية… التحديث دون تفريغ المعنى
رغم الطابع التكنولوجي الجريء في التجربة الصينية، إلا أنها تفتح نقاشاً مهماً حول مخاطر تهميش العلوم الإنسانية. وفي الحالة الفلسطينية، لا يمكن فصل التعليم عن الهوية والوعي الوطني.
فالعلوم الإنسانية ليست عبئاً بل:
⦁ ركيزة للهوية
⦁ أداة للفهم النقدي
⦁ وسيلة لبناء الوعي المجتمعي
المطلوب ليس إلغاء هذه العلوم، بل:
⦁ تحديثها
⦁ ربطها بقضايا المجتمع
⦁ دمجها بالتكنولوجيا
⦁ توظيفها في السياسات العامة والإعلام والثقافة
من التجربة إلى السياسات العامة – توصيات عملية لفلسطين
⦁ إعداد رؤية وطنية شاملة لإعادة توجيه التعليم تربط بين التعليم العام، والعالي، والمهني، وسوق العمل.
⦁ إنشاء أو تفعيل مرجعية وطنية مستقلة لتخطيط التعليم والمهارات تتولى رسم خريطة التخصصات المستقبلية.
⦁ مراجعة شاملة للتخصصات الجامعية وربط فتحها أو استمرارها بمؤشرات تشغيل واضحة.
⦁ ربط التمويل والاعتماد الأكاديمي بالأثر الاقتصادي والتنموي.
⦁ توسيع الشراكة مع القطاع الخاص في تصميم البرامج والتدريب.
⦁ إعطاء أولوية وطنية للتعليم والتدريب المهني والتقني باعتباره رافعة الاقتصاد المنتج.
⦁ تطوير خطاب وطني جديد حول قيمة التعليم يقوم على السؤال:
لماذا نتعلم؟ ولأي اقتصاد؟ ولأي مستقبل؟
التعليم كأداة تحرر وبناء لا كخدمة محايدة
إن ما تقوم به الصين اليوم لا يقتصر على إصلاح جامعاتها، بل يعكس رؤية تعتبر التعليم محركاً للنهضة والسيادة. وهي رسالة بالغة الأهمية لفلسطين، التي تواجه تحديات مركبة تتطلب تفكيراً استراتيجياً شجاعًا.
فالتعليم الذي لا يقود إلى إنتاج، ولا يفتح أفق عمل، ولا يبني اقتصاداً، يتحول إلى عبء اجتماعي.أما التعليم المرتبط برؤية وطنية واضحة، فهو أداة تحرر، وبناء، وصمود.
وكما أعادت الصين تعريف التعليم بوصفه ركيزة للنهضة، فإن فلسطين أحوج ما تكون اليوم إلى إعادة تعريف التعليم بوصفه رافعة للتنمية والسيادة المعرفية والاقتصادية.
- – الدكتور عماد سالم – خبير في شؤون التعليم والتدريب المهني والتقني وسوق العمل وسياسات التعليم
شبكة فلسطين للأنباء – شفا الشبكة الفلسطينية الاخبارية | وكالة شفا | شبكة فلسطين للأنباء شفا | شبكة أنباء فلسطينية مستقلة | من قلب الحدث ننقل لكم الحدث .