غُربةُ وحنين ، بقلم : نادية عوض

غُربةُ وحنين ، بقلم : نادية عوض

منذُ رحيلِكَ
والبيتُ يشبهُ مقعدًا
فارغًا في شتاء قارس
والمساءُ يتدلّى من النوافذِ
كأنه سؤالٌ لا يجدُ من يجيبُه.
أعيشُ وحيدًا،
يرافقني الصمت،
وتجلسُ الوحدةُ على كتفي
كما يجلسُ العُمرُ
على من لم يعد لديه ما ينتظر…
يا ولدي،
كم يشبهُ الغيابُ موجًا
يضربُني بلا رحمة،
وحين أقول “أنا بخير”
تتنهّد جدرانُ البيت
تذكِّرني
لم أعد أحتاج الكثير…
يكفيني يومٌ واحد،
لحظةٌ واحدة،
أن ألمح ظلّك
يعبر عتبة الباب،
أن أسمع وقع قدميكَ
يهزُّ الأرض
كما كان يهزُّ قلبي،
أن أعرف أنّ الاسم
الذي أناديك به ما زلت تسمع صداه
وما زال يسكن بي كأبٍ فقد نصفَه.
كلُّ ليلةٍ،
حين ينهكُ التعبُ عظامي،
أرفع رأسي نحو العتمة
وأناجيكَ:
“عُد إليّ…
عُد إلى البيت
الذي شيّدتُه لك
بحجارة صبري
وبأيدٍ داميه اعياهاالتعب
واعياني الخوف عليك.”
با بني
الفقد غابة والحنين نهرا
والوحده مدينة مهدمة
والغربة طقسا تخترق الروح
أتذكّر يومَ تخرّجك…
كان الضوءُ يلمع على محياك الجميل
وكان فخري بك
يسبقك بخطوتين.
بكيتُ يومها،
وأنا أعدّل ربطة عنقك
كأنني أرتّب سنواتِك المقبلة،
كأنني أضمّد العالمَ
كي لا يخدشك.
كان بكائي نهرا
يشق صدر اب لم يعرف
كيف بخبىء الفرح بين اصابعه
والآن…
حين أفتحُ أدراج الذاكرة،
أجدُ صورتك أول من يستيقظ،
وأطيل النظر في ملامحها
حتى أسمع ضحكتك تدوًي
في مكانٍ لا أصلُ إليه.
الغربةُ با ولدي ليست مكانًا بعيدًا…
هي ان تمرَّ الأيامُ
ولا تمرَّ انت أمامي،
أن يتقدّم بك العمرُ
خارج دائرة صوتي،
أن أكبر وحدي…
وأنت تكبر بعيدًا.
صار البيت يتنفّس وحدة
والجدرانُ باردةٌ
كأنها لم تعرف يوما
دفءَ يديك.
والكرسي الذي
كنتَ تجلس عليه
ما يزال يحدّق في الفراغ،
يسألني كلَّ مساءٍ:
“”أين ذهب؟
ولماذا لم يعد؟”
أما أنا…فلم اعد
انا…
أنا جسدٌ يسنده الحنين،
وروحٌ يحملها الفقد
كما يحمل المغتربُ حقيبته
ولا يعرف أين يضعها.
يا بني،
لم أعد أخاف الموت…
أخاف أن أموت قبل أن أسمع
خطوةً من خطواتك تعود.
أخاف أن تنطفئ ذاكرتي
ولا يبقى لي منك
إلا صورةٌ
لا تشبه دفءَ صدرك.
وإن سألوك يومًا عني،
فقل لهم:
كان أبي
شجرة اقتلعها الغياب
وما زالت جذورها
تبحث عن خطواتي
كان وطنًا صغيرًا…
هدمه الفقد. وهزمته الغربه والحنين…