
وفي كل استشهاد… يعود صابر ، بقلم : سعاد الطميزي
لقد أخذت الجدة حمّامًا دافئًا للتو، حتى أصبحت رائحتها كالمسك الفوّاح.
سكن رذاذه بين خُصلات شعرها الأبيض، يعيث في سماء غرفتها فتنةً تُغريك بالاستنشاق.
وتعلّق بين أسنان مشطها الخشبي ينازع زيت شعرها بسَطوته الطاغية، وترمقه العين وهو يختبئ بين مناديلها المنمّقة بكل الألوان.
يسبح على أناملها فوق مسبحتها المصنوعة من حجر العقيق، ويعانق موجات مذياعها العتيق، ويتشاقى على وسادة نومها مُحدثًا جلبةً تلفت الأنظار.
أهمس لها في سري:
“يا جدّة… أنتِ الأجمل رغم أنف التجاعيد. طهر القلب أنتِ، سلام الروح، والبركة التي تُغنينا.”
أنتِ صاحبة الحكايات الأجمل، فما عادت حكايات شهرزاد تُغريني.
تبا لبياض المشيب كيف غزا ضفائرك السود… وسحقًا لمرضٍ يقتات على جسدك النحيل، ومع ذلك ما زلتِ تدللينني، تسعدينني، وتمسحين بيديك على قلبي، فإذا بي أشفى.
أنتِ ساحرة… كالغيم حين يمطر قبلًا خضراء، تنبت داخل روحي سبع سنابل مع كل قبلة.
غاليتي… غاليتي…
هكذا أفقت من حالة الهيام بالجدة، وهي تناديني بلطف:
“غاليتي… غاليتي…” “تضيف الياء المقصورة على اسمي تودّدًا وحبًا، فأجيبها:
“نعم يا شمسي.”
وأنا أيضًا أزيد على حروف اسمها لأستمر بالدوران في فلكها متنعّمة برضاها.
قالت وهي تلتقط أنفاسها:
“أعينيني يا غاليتي بالجلوس على الكرسي الهزّاز… أريد أن أستريح.
واصنعي لي معروفًا… كوب شاي مع بعض الزنجبيل.
لكن قبل ذلك… وصّلي لي شاشة التلفاز بالكهرباء، أريد مشاهدة الأخبار.”
أجيبها ضاحكة:
“على الرحب والسعة يا مولاتي شمس… هل من أوامر أخرى؟”
فتبتسم إعجابًا بقدرتي على التلاعب بخيوط قلبها، وتقول:
“لا يا ابنتي… هيا أسرعي. كم أنتِ محتالَة.”
خرجتُ مسرعةً لصنع الشاي، لكن تفكيرًا غريبًا راودني…
لم تعتد جدتي سماع الأخبار من التلفاز؛ كانت دائمًا تستمع إليها عبر مذياعها القديم، ذلك الصديق الذي كبر معها وتعود عليها.
لكنني أدركت لاحقًا الجواب:
إنه قدر الذكريات… عاد لينبش قبور الألم.
ونسيت أن أخبركم شيئًا عن جدتي شمس:
هي، كباقي الجدّات، لا تحبّ الفوضى. وبالرغم من محبتها العميقة لي، كانت توبخني أحيانًا إذا دخلت غرفتها محدثة ضجة… ولاذنب لي إلا مقبض الباب اللعين، هذا المتخلخل الشقي.
لكن لا عليكم… فهي مولاتي شمس، لها الحكم علينا، ولنا الطاعة.
هذا سرّي… فلا تخبروا به أحدًا.
وها قد أصبح الشاي جاهزًا، تفوح منه رائحة الزنجبيل الطازج.
اقتربتُ من باب غرفتها بحذر بالغ، وفي يدي فنجان الشاي، وبالأخرى أمسك مقبض الباب مخاطبةً إياه:
“سأعطيك سكاكر كثيرة إن ساعدتني هذه المرة… فهل تمنحني تذكرة العبور دون جلبة؟”
لكنّه، كعادته، قهقه في وجهي، وما إن ضغطت عليه حتى تعالت ضحكته المعدنية.
تبا له…
استسلمت لفكرة توبيخٍ قادم… لكنّ المفاجأة كانت أعظم:
كانت ساكنة… ثابتة… لم تشعر حتى بوجودي.
متجمّدة على كرسيها الهزّاز، عيناها معلّقتان بشاشة التلفاز، صوت الأخبار يعلو بشكل مزعج.
اقتربت… استمعت… فشهقت:
يا إلهي… يا إلهي…
الخبر العاجل على التلفاز أعاد الزمن ثلاثين عامًا إلى الوراء.
أعاد وجعًا ظنّت أنّ الدهر دفنه.
أعلن المذيع استشهاد الفتى أمجد في مسيرة سلمية ضد الاستيطان…
وفي تلك اللحظة، بدأ المشهد يتداعى في ذهنها، وهي تسمع كلام أمه أمل أبو عليا:
“أمجد… قوم يما… قوم يلا نروح يما… أنا مليش غيرك يما…”
كلمات مملوءة بالألم والحسرة، دموع تنزف من القلب قبل العين.
وفي الوقت نفسه، لم يكن أمجد وحده من عاد… بل عاد صابر، ابن الجدة الوحيد، الذي ارتقى قبل ثلاثين عامًا بنفس الظروف.
عاد كما رأته آخر مرة:
محمولًا على أكتاف رجال الحي، ملفوفًا بكوفيته البيضاء، ووجهه الشاحب يغفو فوق أيديهم، بينما تمشي خلفه بخطواتٍ متكسّرة، تهتف باسمه ولا يجيب.
رصاصة متفجرة في صدره… أنهت ربيع عمره قبل أن يكتمل.
عاد صابر لأن الألم يعرف طريق العودة دائمًا إلى قلب الأم…
كلما سقط شهيد… كلما انكسر وطن…
عاد وجعه، وعاد حضوره، وعاد ظلّه.
بقيتُ واقفة خلف جدّتي شمس، أرقب ارتجاف شفتيها وهي تحدّق في الشاشة كأنها نافذة مفتوحة على زمنٍ آخر.
لم تكن تسمعني، ولم تكن ترى فنجان الشاي الذي يبرد بين يدي.
كانت هناك… هناك تمامًا، في اللحظة التي خسرت فيها ولدها الوحيد.
اقتربتُ منها، وضعتُ يدي فوق يدها المرتجفة، فتنهّدت بوجع الأم الذي لا يشيخ.
لم تقل شيئًا… اكتفت بأن تُغمض عينيها وكأنها تعيد صابر إلى حضنها، تُرجعه طفلًا، خفيف الخطى، برائحة التراب والطفولة.
في تلك اللحظة أدركتُ أن الجدة ليست مجرد ذاكرة تمشي على عصا…
بل وطن صغير يحمل تاريخه على ظهر القلب.
مددتُ إليها فنجان الشاي، وقلتُ بصوت هادئ:
“أنا هنا يا مولاتي شمس… لن أترككِ تواجهين هذا الماضي وحدك.”
فتحت عينيها، ونظرت إليّ نظرة أم تهتزّ بآخر ما تبقّى من قوتها، ثم همست:
“غاليتي… بعض الوجع لا يُشفى… لكنه يُحتمل حين يكون أحدهم بقربنا.”
أغلقتُ التلفاز، وأسندتُ رأسها إلى ظهر الكرسي الهزّاز…
هدأ كل شيء من حولنا،
إلا قلبها…
ظلّ يهتز كغصن زيتون يقاوم ريح الفقد.
وهكذا… انطفأت لعبة الذكريات، وبقيت الجدة شمس كما كانت دائمًا:
نورًا دافئًا لا تنطفئ شمسه… وإن حاصرها الألم.
شبكة فلسطين للأنباء – شفا الشبكة الفلسطينية الاخبارية | وكالة شفا | شبكة فلسطين للأنباء شفا | شبكة أنباء فلسطينية مستقلة | من قلب الحدث ننقل لكم الحدث .