12:36 صباحًا / 6 نوفمبر، 2025
آخر الاخبار

أحلام القط كلها فئران ، بقلم : أ. مروة معتز زمر

أحلام القط كلها فئران ، بقلم : أ. مروة معتز زمر

أحلام القط كلها فئران ، بقلم : أ. مروة معتز زمر

(بسم الله رب العالمين)


يقول المثل الشعبي: أحلام القط كلها فئران.


جملة تبدو عابرة، لكنها تخفي وراء بساطتها حكمةً عميقة عن ماهية النفس وما يشغلها.


تشير الدراسات الحديثة إلى أن القطط، شأنها شأن البشر، تدخل في مرحلة النوم الحالم REM sleep، حيث تنشط مناطق الدماغ المسؤولة عن الحركة والخيال. وتظهر أحلامها غالباً مرتبطة بأنشطتها الغريزية فالقط حين ينام، لا يرى في عالمه الداخلي سوى ما يحكمه في يقظته: غريزة الصيد. أما الإنسان، ففئرانُه كثيرةٌ ومتبدلة، منها ما يُطارد بالمال، ومنها ما يُلاحَق بالسلطة أو القبول أو الحب.


هذا التشابه بين أحلام القطط وأحلام البشر يكشف أنّ الحلم مرآة للعالم الداخلي.كلٌّ منّا له فأره الخاص، وإن اختلفت المسميات.


منذ فجر الحضارات، كانت الأحلام نافذةً على المجهول.


في مصر القديمة، كان الكهنة ينامون في المعابد طلباً لرؤيا تُرشدهم إلى علاجٍ أو نبوءة، وفي بلاد الرافدين، خُصصت الألواح الطينية لتدوين الأحلام وتفسيرها، فقد رأى السومريون فيها رسائل من الآلهة، أما الإغريق فكانوا يؤمنون أن الحلم قناة يتحدث عبرها الإله إلى الإنسان، وشيّدوا معابد للشفاء عبر النوم، عُرفت باسم أسكليبيوس.


وفي العصور الإسلامية، ازدهر علم تأويل الأحلام، وبرز علماء مثل ابن سيرين الذين تعاملوا مع الحلم بصفته رموزاً تحتاج إلى فطنة لفكّها. كان الحلم آنذاك طريقاً إلى الكشف والحدس، لا مجرد انفعالٍ نفسي.


ثم جاء فرويد في مطلع القرن العشرين، فحوّل الحلم من رسالةٍ سماوية إلى مرآةٍ للّاشعور، يعبّر فيها المكبوت عن نفسه بطرق رمزية، وبعده جاء كارل يونغ ليعيد الاعتبار للروح في علم النفس، فرأى في الحلم لغة كونية تعبّر عن النفس الجمعية للبشر جميعاً.


هكذا، من معابد الآلهة إلى عيادات التحليل النفسي، ظلّ الإنسان ينصت إلى ما تقوله له ذاته في المنام.. باختلاف الأسماء، كان دائماً يبحث عن نفسه في الحلم.


يرى يونغ أنّ الأحلام ليست مجرد صورٍ عشوائية، بل رموزٌ تصوغها النفس بلغة اللاوعي لتكمل ما عجز عنه الوعي في النهار. الحلم عند يونغ وسيلة اتصال بين الجسد والروح، بين الظاهر والمخفي، وهو مجالٌ تُشفى فيه النفس من تناقضاتها. فحين ننام، تتحدث أرواحنا بما لم يجرؤ لساننا على قوله، وتتحرّر رغباتنا من قيود المنطق.


الأحلام بهذا المعنى ليست ترفاً نفسياً، بل ضرورة بيولوجية وروحية. إنها كالتنفس، تنظّف الداخل وتعيد ترتيب الفوضى فينا. إنه ليس ظاهرة غامضة، بل وظيفة طبيعية وصحية للنفس البشرية ومن لا يحلم، أو بالأحرى من لا يتذكّر أحلامه، ربما فقد مؤقتاً صلته بنفسه. فالأحلام لا تغيب، لكنها تختار أن تصمت حين لا نجد الوقت للإصغاء.


الأمر لا يتوقف عند البيولوجيا، بل إننا نستخدم المنطق لنبرر بقاءنا في هذا السجن، الإنسان كائن عقلاني، أو على الأقل يحب أن يرى نفسه كذلك. لذلك، حين يسيطر عليه هوس ما، فإنه يبني حوله منظومة منطقية زائفة ليدافع عنه. التاجر المهووس بالمال لا يقول “أنا أسير لغريزة التملك”، بل يقنع نفسه وعائلته بأن “هذا كله من أجل تأمين مستقبلكم”. والسياسي المتعطش للسلطة لا يعترف بهوسه، بل يبرر أفعاله بـ”تحقيق المصلحة العليا للوطن”.


هذه العملية تسمى في علم النفس بـ”التبرير (Rationalization)”، وهي حيلة دفاعية تجعلنا نشعر بالراحة تجاه دوافعنا الحقيقية. نحن نرتكب مغالطة منطقية بحق أنفسنا: نضع النتيجة أولاً (أريد هذا الشيء)، ثم نبحث عن مقدمات منطقية تبررها (لأن هذا الشيء جيد/ضروري/نبيل). وبهذا، نحول “الفأر” من مجرد غريزة عمياء إلى هدف سامٍ، ونحول القفص إلى قلعة نحميها بكل ما أوتينا من قوة جدال.


إن هواجسنا ليست وليدة الصدفة، فالمجتمع الذي نحيا فيه هو مصنع فئرانٍ عملاق يوجّه أحلامنا. تُهمس لنا الثقافة الاستهلاكية أن قيمتنا فيما نملك، لا فيما نحن عليه، هكذا تتسلل الفئران إلى عقولنا في ثيابٍ براقة: وظيفة، شهرة، مظهر، علاقة، مال.. نركض وراء امتلاك الأشياء لنثبت ذواتنا، بينما تتآكل الذات في الركض. نُقنع أنفسنا أن ما نطارده هو حلم، بينما هو في الحقيقة فأر أنيق بثياب من ذهب. لكنها في الجوهر تظل فئراناً نلهث خلفها، ونُقنع أنفسنا أنها أحلام.
وهنا نصل إلى السؤال الأعمق: هل نحن حقاً أحرار؟


إذا كانت بيولوجيا الدماغ تدفعنا نحو الهوس، والمنطق يبرّره، والمجتمع يغذّيه، فماذا يتبقى من الإرادة الحرة؟
الفلسفة الوجودية، خاصة عند سارتر، تقدّم إجابة قاسية ومحرّرة في آن واحد: الإنسان محكوم عليه بأن يكون حراً.
أي أننا، مهما كانت المؤثرات، نظل مسؤولين عن طريقة استجابتنا لها؛ القط ليس مسؤولاً عن مطاردة الفأر، فهي غريزته.. أما الإنسان، فبإمكانه أن يتساءل:


هل أريد حقاً أن أقضي حياتي في مطاردة هذا الفأر؟


التحرر لا يعني نفي الرغبات، بل اختيار الرغبات التي تستحق أن نحيا من أجلها. أن نتحول من عبيدٍ لهوسنا إلى سادةٍ يختارون معاركهم وأحلامهم. القيمة الحقيقية للإنسان لا تكمن في غياب “الفئران”، بل في قدرته على أن يحلم بالمجرّات بينما الفئران تعبث عند قدميه.


هنا يتكامل العالمان: فـ يونغ يكشف ما يولده اللاوعي فينا، وسارتر يضع الوعي أمام مرآته ويقول له: أنت حرّ في أن تختار كيف تستجيب. لا تملك أن تمنع الحلم من الظهور، لكنك تملك أن تختار كيف تحيا بعد أن تستيقظ منه.
إن إدراك مصدر الهوس هو الخطوة الأولى نحو التحرر. والرحلة تبدأ من الداخل:


بالوعي والملاحظة؛ راقب أفكارك كما تراقب الغيوم في السماء. لا تحاربها ولا تتعلق بها، فقط لاحظها وهي تمر.
بتفكيك المنطق الزائف؛ اسأل نفسك بصدق: هل هذا الهدف يخدمني حقاً، أم أنني أخدمه؟ تحدَّ التبريرات التي تبنيها حول هوسك.


وعليك بممارسة الحرية؛ اختر بوعي أن تخصص وقتاً لأشياء تقع خارج دائرة هوسك، اقرأ كتاباً لا علاقة له بعملك، مارس هواية لا تجلب لك المال، أو اجلس في صمت دون هدف. كلّ فعلٍ من هذا النوع هو إعلان استقلال عن “فأرك” الخاص.

ويَظلّ المثل الشعبي «أحلام القط كلها فئران» مرآة ساخرة لواقعنا. القطط تنعكس فيها غريزة الصيد، أما نحن فتنعكس فينا الهواجس والمطامع والضغوط التي تشغل وعينا. لكننا نختلف عنها في شيء واحد جوهري: الوعي.


فقط الإنسان يمكنه أن يعي فئران أحلامه، بعقله القادر على الفهم، وبقلبه القادر على التعلم، وبإرادته القادرة على الاختيار، يستطيع أن يقرر. يمكنه أن يحلم بما هو أبعد، وأرحب، وأعمق… شرط أن يملك شجاعة كسر القفص الذي صنعته أوهامه بيديه، وأن يختار بوعي أن تكون أحلامه بحجم السماء، لا بحجم فأر.

شاهد أيضاً

اللجنة المركزية للانتخابات تعقد اجتماعاً تشاورياً مع اللجنة التحضيرية لانتخابات المجلس الوطني

شفا – عقدت اللجنتان المركزية للانتخابات، والتحضيرية لانتخابات المجلس الوطني، اجتماعا تشاوريا، اليوم الأربعاء، بهدف …