
حين يفقد القلب بوصلته ، بقلم : هيفين عمر
يحدث أحيانًا أن نستيقظ ولا نعرف من نحن بعد الآن.
كلّ ما كنّا نؤمن به يبدو كظلٍ بعيدٍ في ذاكرةٍ غائمة، وكلّ ما كان يهبنا الطمأنينة صار مجرّد سؤال معلّق في الهواء.
تبدأ الحكاية بصمتٍ صغير، بشعورٍ خفيّ لا يمكن تسميته، كأن شيئًا في الداخل بدأ يتغيّر دون إذنٍ منّا… ثم يتسع هذا الشعور حتى يصبح كونًا كاملًا من التساؤلات.
نكتشف أن الإيمان — أيًّا كان شكله — ليس قالبًا جاهزًا نرتديه، بل رحلة داخل العتمة بحثًا عن بصيصٍ من ضوء.
وأن الخوف من الضياع ليس دليل ضعف، بل دليل أن هناك شيئًا فينا لا يزال حيًّا، يرفض الاستسلام للسطحيات، يبحث عن الحقيقة، عن معنى يليق بكل ما نحمله من أسئلة.
الذين لم يعرفوا الشكّ، لم يعرفوا الإيمان حقًا.
فالطمأنينة التي لا تُختبر بالقلق، تشبه سلامًا بلا جذور.
كل فكرة لم تُمسّ بالشكّ تبقى هشّة، وكل يقين لم يُختبر بالأسئلة يبقى ناقصًا.
ربما لهذا السبب، كان الشكّ عند الفلاسفة الأوائل بداية الوعي لا نهايته — لأن الإنسان لا يولد مؤمنًا، بل باحثًا.
أحيانًا لا نبتعد عن الإيمان، بل نبتعد عن الصورة التي رُسمت له في أذهاننا.
نبتعد عن الأصوات التي فرضت علينا كيف نرى العالم، وكيف نفهم الله، وكيف نعيش الروح.
نبتعد لأننا نريد أن نسمع الصوت الأصدق — صوتنا نحن — حين نحاور المجهول في داخلنا بلا خوفٍ ولا وساطة.
وفي هذا الحوار الصامت، نكتشف أننا لا نبحث عن دينٍ جديد بقدر ما نبحث عن اتصالٍ صادق بيننا وبين معنى أكبر منّا.
تلك المرحلة مؤلمة…
يشبهها البعض بالتيه في صحراء بلا علامات.
لكن من سار فيها بصدق، عاد مختلفًا: أكثر وعيًا، أكثر تواضعًا أمام الحياة، وأكثر صدقًا مع نفسه.
إنها لحظة يتحوّل فيها السؤال من خصمٍ إلى صديق، ومن خوفٍ إلى بوصلة.
يقول كافكا:
“من يملك القدرة على رؤية الجحيم في نفسه، لا يمكن أن يُهزم من جحيم العالم.”
وربما هذا هو المعنى الأعمق: أن كلّ من يجرؤ على مواجهة فراغه الداخلي، يقترب خطوة من امتلائه الحقيقي.
فقدان البوصلة ليس نهاية الرحلة، بل بدايتها.
إنه الطريق الذي يعبره كلّ من يبحث عن معنى لا يُورث، بل يُكتشف وحده، في صمتٍ طويلٍ، وفي صدقٍ مؤلمٍ، لكنه يُعيد تشكيل الروح كما لم تفعل أي يقينٍ من قبل.
شبكة فلسطين للأنباء – شفا الشبكة الفلسطينية الاخبارية | وكالة شفا | شبكة فلسطين للأنباء شفا | شبكة أنباء فلسطينية مستقلة | من قلب الحدث ننقل لكم الحدث .