
الإنسان المستنزف: بين الوقت، الحاجة، والكرامة ، بقلم : ماتيلدا عواد
مقدمة
الحياة المعاصرة صارت آلة تمتص ساعات الإنسان دون أن يشعر.
نستيقظ، نؤدّي أدوارنا، نبيع الوقت، ونكتشف فجأة أن حياتنا تُقاس بالراتب، بالمكانة، بالأداء، لا بالوجود.
بين هذه الوتيرة اليومية، هناك وجوه لا نراها: أطفال يمدّون أيديهم للبقاء، نساء يواجهن خيارات صعبة نتيجة الحاجة، وعاملون يُستنزفون جسديًا وروحيًا.
في هذا المقال، سنسحب كل الخيوط التي تشكّل الحياة اليومية للإنسان المستنزف: الزمن، الفقر، الحاجة، والمجتمع الذي يغض الطرف. سنرى كيف ترتبط هذه الظواهر ببعضها، ولماذا لا أحد مرتاح.
الزمن المسروق: كيف تمتص الحياة الإنسان
الوقت صار سلعة، يُقايض بحياة الإنسان اليومية.
الآلة الاجتماعية لا تستخدم السلاسل، بل الحوافز: ترقيات، أرقام، ووعود مستقبلية.
الإنسان يتعلم منذ الصباح أن نجاحه يقاس بالقدرة على تحمل هذا الاستنزاف.
أحلامه تنتظر وراء مشروع آخر، راتب آخر، أو ترقية مؤجلة.
النتيجة: عمر يُستهلك، إرادة تُستنزف، ووعي يُباع مقابل الاستمرار.
من ساعاتنا المهدورة إلى وجوه لا يُسمع لها صوت
الطفولة المفقودة: أطفال بين البقاء والمجتمع
في زوايا المدن، هناك أطفال يمدّون أيديهم بحثًا عن لقمة أو دعم بسيط.
هؤلاء الأطفال لم يولدوا متسولين؛ الظروف والفقر حرمتهم من الحق الأساسي: الطفولة.
غياب التعليم، انهيار شبكات الدعم، والانقطاع عن الحياة الأسرية يحوّل البقاء إلى وظيفة يومية.
إنهم مرآة فاضحة لمجتمع يبرّر الصمت ويستمر في عدم التدخل، حتى يصبح الاستجداء مقياسًا للبقاء، والوجود مرهونًا بالضرورة.
وفق تقديرات الأمم المتحدة، أكثر من 10 ملايين طفل في العالم العربي يعيشون على هامش الحياة بلا تعليم أو مأوى.
النساء تحت وطأة الحاجة: خيارات لا حرية فيها
النساء اللواتي يعشن تحت ضغط الفقر والاعتماد على الآخرين يجدن أنفسهن مضطرات لاتخاذ قرارات صعبة للبقاء أو لإعالة أسرهن.
هذه القرارات ليست اختيارًا شخصيًا، بل فرض واقع ناتج عن العوز، الفرص المحدودة، والغياب الكلي لشبكات دعم حقيقية.
المجتمع غالبًا لا يسأل عن السياق، ويختصر الواقع في حكم أخلاقي سريع، بينما الحقيقة أن المشكلة هيكلية واجتماعية وليست فردية.
الحل لا يكون بالتشهير أو الإدانة، بل بتوفير بدائل عملية تحفظ الكرامة وتمنع الانحدار إلى خيارات فرضت قسرًا.
“ليست هذه الخيارات رغبة، بل فرض واقع.”
المأزق المشترك: الجميع مستهلكون
المنضبط ضمن الروتين يضيع في التكرار، والخارج عن الإيقاع يضيع في الضياع.
الطفل، المرأة، العامل، وحتى التائه بين المهام اليومية، جميعهم مستهلكون في النهاية: بأجسادهم، بأحلامهم، وبوقتهم.
كل خيط مرتبط بالآخر: استنزاف الزمن يولد الفقر، والفقر يولد الانحراف، والانحراف يعيد إنتاج الفقر.
الواقع واحد، واللامبالاة مستمرة ما لم نواجهه بشكل متكامل.
كل خيط مرتبط بالآخر: من استنزاف الوقت إلى الفقر، ومن الفقر إلى خيارات البقاء القسرية…
الخيوط المتشابكة: رؤية شاملة
عندما نضع كل الظواهر جنبًا إلى جنب، يتضح أن المشكلة ليست جزئية:
استنزاف الوقت يُضعف الأسرة والمجتمع.
الفقر يخلق خيارات قسرية للأطفال والنساء.
العامل المستنزف يعكس هشاشة منظومة العمل.
الاعتراف بهذا الترابط هو خطوة أولى لفهم التغيير الحقيقي.
خاتمة: لا أحد مرتاح، والوعي أول خطوة للتغيير
الراحة الحقيقية ليست في التكيف أو التجاهل، بل في الوعي المشترك.
فهم أن كل وجه على هامش الحياة هو انعكاس لما يحدث في المجتمع بأسره هو البداية.
التغيير يبدأ بالاعتراف بالواقع، ثم تبني حلول عملية: حماية الأطفال، دعم النساء، تحسين شروط العمل، وتغيير الخطاب الثقافي.
حين نعيد توزيع الكرامة ونوقف استنزاف الزمن والحياة، نصبح مجتمعًا قادرًا على أن يعيش جميع أفراده بحد أدنى من الأمان والاعتراف.
هل سنستمر في بيع حياتنا وحريتنا، أم نختار أخيرًا أن نعيد للإنسان مكانه الطبيعي؟
شبكة فلسطين للأنباء – شفا الشبكة الفلسطينية الاخبارية | وكالة شفا | شبكة فلسطين للأنباء شفا | شبكة أنباء فلسطينية مستقلة | من قلب الحدث ننقل لكم الحدث .