4:16 مساءً / 20 أكتوبر، 2025
آخر الاخبار

سلفيت .. ، مدينة السلال والعنب والينابيع التي لا تنضب ، بقلم : د. عمر السلخي

سلفيت .. ، مدينة السلال والعنب والينابيع التي لا تنضب ، بقلم : د. عمر السلخي

سلفيت .. ، مدينة السلال والعنب والينابيع التي لا تنضب ، بقلم : د. عمر السلخي


في قلب الجبال الغربية للضفة الفلسطينية، تتربع مدينة سلفيت كعروسٍ هادئةٍ بين الزيتون والينابيع، تحمل على كتفيها إرثًا حضاريًا يمتد لآلاف السنين، تُعرف بسلالها المليئة بالعنب والتين والزيتون، وبعطائها الذي لا ينضب رغم قسوة الجغرافيا والتاريخ.


اسمها المشتق من الجذر الكنعاني القديم “سلفيت” – أي “السلال المملوءة”– يعكس غناها الزراعي ومكانتها كمخزنٍ للخير وموطنٍ للخصب الدائم، تنتشر فيها الينابيع الطبيعية مثل عين المطوي، عين الشلال، وعين الحاووز، التي شكّلت عبر العصور مصدر حياةٍ للسكان وموردًا للزراعة.


تزدان سلفيت بتراثٍ معماريٍ فريد، حيث البيوت الحجرية المقوسة والأزقة القديمة التي تروي حكايات أجيالٍ متعاقبة، عاش أهلها على الزراعة وصناعة السلال والخوابي ومعاصر الزيت، كانت مركزًا للتبادل التجاري بين الساحل الفلسطيني والجبال الوسطى، وملتقى للقوافل والمسافرين منذ العهد الروماني وحتى بدايات القرن العشرين.


منذ القدم كانت مدينة سلفيت تزدان بكروم العنب، وكان أهلها يشتهرون بحمل السلال المليئة بعناقيد العنب الناضجة، ومع مرور الزمن، انقسمت الكلمة إلى مقطعين: “سلّ” و”فيت”، أي سلة العنب، لتبقى شاهداً لغوياً على ماضي المدينة الزراعي وارتباطها بالأرض والكرم.


تقع مدينة سلفيت في الجنوب الغربي من مدينة نابلس، على بعد 26 كيلومتراً هوائياً، وترتفع عن سطح البحر بنحو 522 متراً، ما يمنحها مناخاً معتدلاً وطبيعة جبلية خلابة، يحدها من الشرق اسكاكا واللبن الشرقية وعمورية، ومن الجنوب عمورية وخربة قيس وفرخة ومزارع النوباني، ومن الغرب بروقين، ومن الشمال مردة وكفل حارس.


تُعرف سلفيت بأنها مدينة الينابيع بامتياز، إذ تحتوي على ما يقارب 99 نبعاً وآباراً أثرية تنتشر في أرجائها. لكن عدداً منها تعرض للإهمال والطمر بسبب التوسع العمراني وشق الطرق الجديدة، مثل عين العصافير غرب المدينة.
ومن أبرز الينابيع التي لا تزال عامرة حتى اليوم:


⦁ العين القبلية (عين المغرفة): تقع في الجهة الجنوبية، وتخرج مياهها من أسفل صخرة ضخمة، أقيم عليها بناء حجري يضم رواقاً بأربعة أقواس متقاطعة ومدخلاً نصف دائري من الحجر المشذب.
⦁ عين فريج: تقع جنوب غرب المدينة، وتتميز بصفاء مياهها وبرودتها الفائقة، إذ تنبع من صخر عميق يعرف بـ “الدست”. بجانبها متنزه حديث، وتوجد آثار معصرة عنب قريبة منها، ويقال إن مياهها تمتلك قدرة علاجية للأمراض.
⦁ عين عدس: تخرج من أسفل جبل يحمل اسمها، وتصب في بركة دائرية بعمق نحو 1.5 متر، بُنيت في خمسينيات القرن الماضي. تحيط بها أشجار الزيتون والليمون والخضروات.
⦁ عين الشاعر: نبع غزير ينبع من ملتقى جبلين، وتستفيد منه قرى مجاورة مثل الساوية لسقاية المواشي.
⦁ عين عادي: نبع صغير تم تمديد أنابيب مياهه إلى خربة قيس المجاورة.


يقف بيت دار عفانة في قلب سلفيت كأحد أقدم البيوت التاريخية التي تعكس العمارة الفلسطينية في أواخر العهد العثماني، بُني المنزل في نهايات الحكم العثماني على يد أحد أفراد آل عبد الهادي الذين كانوا يتولون جمع الضرائب، ثم اشتراه عبد الله إسماعيل عفانة. كان البناء جاهزاً تقريباً باستثناء الأبواب والشبابيك وبعض التشطيبات النهائية.


تبلغ مساحة البناء نحو دونم واحد، ويتكون من ست غرف بعقود متقاطعة وشبابيك مزدوجة وثلاثية تطل على الحوش الداخلي، الذي تبلغ مساحته نحو 100 متر مربع ويضم شجر الليمون ومغاسل حجرية وأحواض زراعة دائرية، في المبنى مطبخ مشترك، حمام، وخان للحيوانات، ونظام تمديدات صحية بدائي تصل إلى وادٍ غرب المدينة.


لم يكن في البيت بئر خاص، فكان سكانه يجلبون المياه من العين الشامية كما هو حال بقية أهالي المدينة آنذاك، في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، سكنت في الدار ست عائلات يتراوح عدد أفرادها بين 3 و12 فرداً، ليصل عدد السكان الإجمالي إلى نحو 50 شخصاً، اليوم، لا يزال بيت واحد فقط مسكوناً، وقد أُضيفت إليه بعض المرافق الحديثة مثل المطبخ والحمام، بينما أُعيد استخدام جزء آخر من المبنى ليكون مطعماً تراثياً يستقبل الزوار.


من سلال العنب التي حملت اسمها، إلى ينابيعها التي لم تجف منذ قرون، وبيوتها العثمانية التي صمدت في وجه الحداثة — تظل سلفيت مدينة فلسطينية نابضة بالحياة، تجمع بين التراث المائي والذاكرة الحجرية، وتروي حكاية الأجداد الذين بنوا وجعلوا من الأرض عنواناً للكرامة والصمود.


رغم تاريخها العريق وثرائها الطبيعي والثقافي، تعيش مدينة سلفيت اليوم في مواجهة مباشرة مع واحدة من أكبر الكتل الاستيطانية في الضفة الغربية، فقد أحاطها الاحتلال الإسرائيلي بعدد من المستوطنات أبرزها “أريئيل”، التي تُعد ثاني أكبر مستوطنة في فلسطين بعد “معاليه أدوميم”، وتمتد على أراضٍ مصادرة من سلفيت والقرى المجاورة كـمردا وكفل حارس.


يُضاف إلى ذلك شبكة من الطرق الالتفافية التي مزّقت أوصال المدينة وصادرت مئات الدونمات من الأراضي الزراعية، ومنعت الأهالي من الوصول إلى ينابيعهم وحقول الزيتون، كما أقيمت المنطقة الصناعية “لارئيل” غرب المدينة، التي تُعد مركزًا اقتصاديًا استيطانيًا ضخمًا، تلوّث أراضي وبيئة سلفيت بمخلفاتها الكيماوية السامة.


ورغم كل ذلك، تظل سلفيت رمزًا للصمود الفلسطيني، تجمع بين التاريخ والإنسان، وتصر على حماية إرثها وبيئتها وذاكرتها من محاولات الطمس والتهويد، لتبقى عنوانًا للثبات والجمال في وجه الاحتلال، ومدينةً تتحدى الحصار بالماء والزيتون، وتستمر في عطائها كما نبعها الذي لا ينضب.

شاهد أيضاً

إسرائيل : عشرات الآلاف يغادرون والحكومة عاجزة

إسرائيل : عشرات الآلاف يغادرون والحكومة عاجزة

شفا – كشف تقرير خاص صادر عن مركز الأبحاث والمعلومات في الكنيست عن أرقام مقلقة …