4:15 مساءً / 20 أكتوبر، 2025
آخر الاخبار

بين الفهم والمعرفة …، هناك إنسان ، بقلم : ماتيلدا عواد

بين الفهم والمعرفة …، هناك إنسان ، بقلم : ماتيلدا عواد

بين الفهم والمعرفة …، هناك إنسان ، بقلم : ماتيلدا عواد

ثمّة لحظة في عمر الفكر، يتوقف فيها السؤال عن أن يكون مجرّد وسيلة، ويغدو سكنًا.
تلك اللحظة التي لا تبحث فيها عن “الإجابات”، بل تصغي لما لم يُقل بعد في أعماقك.
هكذا أدركتُ أن الفهم ليس نتاج قراءةٍ كثيرة، ولا امتلاك كمٍّ هائل من الكتب،
بل ثمرة صمتٍ طويل أمام الذات، وإدراكٌ لما يحيا في قلبك دون أن يحتاج أن يُقرأ على صفحات الآخرين.

أنا الكاتبة، وأعرف أنّ قلّة القراءة أحيانًا أفضل من كثرتها،
لأن ما يتركه الصمت في داخلي يفوق ما تتركه الكتب في رأسي.
المعرفة ليست امتلاكًا، ولا تراكمًا للأفكار، بل وعيٌ متجدد، وتجربةُ حياة تُصقل الفهم.

كنتُ ذات مساء أقرأ لنيتشه قوله:
“من له سبب يعيش من أجله، يمكنه أن يتحمل كل شيء.”
توقفت عند الكلمة، لم أبحث عن معناها المنطقي، بل شعرت بأن السبب ليس فكرة، بل نبضٌ يتوازن على حافة الجنون، يُعلم أن الإنسان لا يُقاس بما يعرف، بل بما يقدر أن يحتمل دون أن يفقد جوهره.

إريك فروم علّمني أن الإنسان ليس ما يملك، بل ما يكونه:
“ليس السؤال عمّا يملكه الإنسان، بل عمّا يكونه.”
وهايدغر أضاف للوعي معنىً أعمق:
“التفكير الحقيقي هو الشكر.”
ولم أفهم الشكر إلا حين أدركت أنه الإصغاء للوجود كما هو، بلا تزوير، بلا خوف من الغموض.

سارتر جعل الحرية عبئًا ونعمة في آن واحد، حين قال:
“الإنسان محكوم عليه بالحرية.”
كم هي قاسية هذه الجملة وكم هي رحيمة! فهي تذكّرنا أن الاختيار ليس ترفًا، بل مسؤولية أن نصبح ما نؤمن به، لا ما يُنتظر منا أن نكونه.

المعرفة التي لا تمرّ بالقلب، تُشبه الغربة: تملأ الرأس وتُفرغ الروح.
أما المعرفة التي تنبت في القلب فهي التي تعيد للإنسان ملامحه الأولى.
وسقراط، حين قال: “اعرف نفسك.”، لم يقل أن النهاية هي المعرفة، بل البداية هي إدراك الفضاء الذي تحتله روحك في هذا العالم.

كل كتابٍ قرأته لم يضيف لي فكرة جديدة، بل سحب الغبار عن قلبي.
القراءة أحيانًا ليست فعل اكتساب، بل فعل تجرّد.
أن تقرأ لتتقلص حتى تصل إلى جوهرك الصافي.

وفي لحظات أخرى، وجدت بوحًا مماثلًا عند كامي:
“في عمق الشتاء، أدركت أن في داخلي صيفًا لا يُقهر.”
وعند سيمون دي بوفوار:
“كيف يمكن للإنسان أن يكون حرًّا وهو لم يعرف بعد من يكون؟”


وأحيانًا، كنت أجد هذه اللحظة بين سطوري أنا، حيث يلتقي الجرح بالكتابة، ويتحول الألم إلى وعي صافٍ.

إن الفهم ليس امتلاكًا للحقيقة، بل اتساع للرؤية، أن ترى ما وراء الحكم، وما قبل الفكرة، وما بين الكلمات.
هو ما يجعل الكاتبة، أي كاتبة تسكن حقل الوعي، لا تكتب لتقول، بل لتضيء مساحة في داخل قارئ لا تعرفه.

الثقافة، في النهاية، ليست بعدد الكتب التي نقرأها، بل بعدد المرات التي غيّرتنا فيها جملة واحدة.
أن تكون مثقفًا يعني أن تتصالح مع جهلك، أن تبتسم وأنت تقول: “لا أعرف بعد، لكني أقترب.”

الفهم، إذًا، ليس ما نكتب، بل ما نصمت عنه حين ندرك أنه لا يُقال.
ذلك هو جوهر الإنسان حين يتجاوز الفكرة ليصبح الفكرة نفسها.

شاهد أيضاً

إسرائيل : عشرات الآلاف يغادرون والحكومة عاجزة

إسرائيل : عشرات الآلاف يغادرون والحكومة عاجزة

شفا – كشف تقرير خاص صادر عن مركز الأبحاث والمعلومات في الكنيست عن أرقام مقلقة …