
الصراع… جرح البشرية الأزلي وإمكانية الخلاص ، بقلم : رانية مرجية
مدخل: دم يسيل على امتداد التاريخ
منذ لحظة التكوين الأولى، كان الصراع يرافق الإنسان كظله.
منذ أن انكسر صوت هابيل تحت ضربة أخيه، ومنذ أن تحوّل الحسد إلى دم على التراب، لم يهدأ هذا الكوكب.
كل جدار في مدننا يحمل أثر نزاع، كل مقبرة شاهدة على عجزنا عن إدارة خلافاتنا.
نكتب الشعر عن الحب، لكننا نرسم التاريخ بالدم.
نشيّد المعابد، ثم نحرقها باسم الرب ذاته.
نرفع شعارات الحرية، ثم نكبل بعضنا بالقيود.
إنها المفارقة المأساوية: الإنسان، الكائن الذي يكتب ويغني ويبدع، هو نفسه الكائن الذي يذبح ويقمع ويقصي.
فهل نحن أسرى هذه الدوامة الأبدية؟ أم أن في داخلنا بذرة خلاص، تنتظر أن نسقيها بالوعي والرحمة؟
الصراع: لعنة وضرورة في آن
الصراع ليس مجرد لعنة يجب التخلص منها. إنه في جوهره طاقة مزدوجة.
حين يثور المظلوم، فإنه يطالب بالعدل.
حين تحتج المرأة، فإنها تبحث عن مكان تحت الشمس.
حين تقاوم الشعوب الاستعمار، فإنها تنشد الحياة لا الموت.
حتى الصراع الداخلي، بين الفرد وأعماقه، بين ضعفه وأحلامه، هو الشرارة التي أهدت البشرية أعظم فنونها وفلسفاتها.
المشكلة ليست في وجود النزاع، بل في طريقة إدارتنا له:
إما أن نصوغه بلغة الحوار، أو نتركه ينفجر بلغة الدم.
المراحل الخفية للنزاع
النزاع كالنهر، يبدأ بنقطة صغيرة ثم يتحول إلى طوفان:
الكمون: جرح صامت، إحساس بالتهميش أو الظلم.
الإدراك: لحظة وعي بأن الخلل لم يعد يحتمل.
التعبير: صرخة، مظاهرة، احتجاج، قصيدة.
التصعيد: خطاب كراهية، تحالفات، انقسام.
الجمود: إنهاك متبادل، طريق مسدود.
الحل أو التفكك: إما مصالحة تعترف بالحقوق، أو انهيار يُعيد الدورة من جديد.
إن قراءة هذه المراحل ليست ترفًا، بل ضرورة للبقاء. فالمجتمعات التي لا تسمع أصواتها الصغيرة، تضطر لاحقًا للاستماع إلى دوي المدافع.
كيف يواجه الإنسان صراعه؟
أمام النزاع، تتعدد استراتيجيات البشر:
التجنّب: ندفن الألم في الداخل، لكنه ينفجر لاحقًا.
الاستيعاب: نضحي بحقوقنا لإرضاء الآخر، فننزف في صمت.
التنافس: نفرض إرادتنا، لكننا نزرع بذور انتقام.
التسوية: نقتسم الخسائر، لكننا نترك الجرح مفتوحًا.
التعاون: نبحث عن حل يربح فيه الجميع، فنحوّل العداوة إلى شراكة.
إنه الطريق الأصعب، لكنه وحده الطريق الذي يصوغ مستقبلًا أقل دموية.
وجوه الصراع في حياتنا
في الأسرة:
البيت هو المرآة الأولى.
حين يغيب الحوار بين الأزواج، يتحول الحب إلى سجن صامت.
حين يُقصى الأبناء عن الإصغاء، تتحول الفجوة إلى هاوية.
وحين تُدار الخلافات بالعنف لا بالرحمة، يكبر الجرح مع كل جيل.
في العمل:
المؤسسات الظالمة تصنع عمالًا منهكين وأوطانًا مريضة.
الموظف الذي يُحرم من العدالة يصبح قنبلة صامتة.
والشركات التي تقتل التعاون بروح التنافس الأعمى، تذبح إبداعها بأيديها.
في المجتمع:
الطائفية تذبح الوطن بأيدي أبنائه.
العنصرية تزرع في الشوارع حروبًا لا تنتهي.
وحين يتحول الإعلام إلى بوق للتحريض، تصبح الكلمة أخطر من الرصاصة.
في الفضاء الرقمي:
اليوم، كلمة واحدة على شاشة قادرة على إشعال حرب في الشارع.
خطاب الكراهية يزرع انقسامًا بلا حدود جغرافية.
وهنا، يصبح الوعي الرقمي جزءًا من ثقافة السلام.
دروس من تجارب العالم
لبنان: اتفاق الطائف أوقف الحرب، لكنه لم يوقف الطائفية.
المغرب: هيئة الإنصاف والمصالحة أعادت للضحايا صوتهم، فبدأ الشفاء.
جنوب أفريقيا: مانديلا فتح دفاتر الماضي لا للانتقام بل للتطهر.
إيرلندا الشمالية: حوار مضنٍ استمر سنوات، لكنه أنقذ دماء أجيال.
اليابان: النقابات جعلت من الحوار المؤسسي بديلاً عن الانفجار.
كل تجربة تقول لنا: لا سلام بلا عدالة، ولا مصالحة بلا اعتراف.
نحو ثقافة سلام حقيقية
السلام ليس صورة لزعماء يبتسمون أمام الكاميرات.
السلام ليس هدنة هشة تسبق انفجارًا أكبر.
السلام هو:
أن يتعلم الطفل أن المختلف ليس عدوًا.
أن يتخلى الإعلام عن تجارة الدم.
أن يصبح الفن والأدب سلاحًا للجمال بدل أن يكون صامتًا أمام الخراب.
أن تعترف العدالة بالضحايا، لأن جرحًا بلا اعتراف يظل ينزف في ذاكرة الشعوب.
خاتمة: بين اللعنة والخلاص
في النهاية، نحن لسنا أسرى قدر أعمى. نحن صانعو خياراتنا.
يمكننا أن نكرر مأساة قابيل إلى الأبد، أو أن نكسر الدائرة.
يمكننا أن نبني جدرانًا تُقصي، أو جسورًا تُوصل.
النزاع لن يغيب عن حياتنا، لكنه يمكن أن يصبح مدرسة للإنسانية.
والسلام لن يكون غياب الحرب فقط، بل حضور العدالة، حضور الكرامة، حضور الأمل.
فلنكتب في دفاتر الغد: كنا مختلفين… لكننا اخترنا أن نحيا معًا، لا أن نموت فرادى
- – رانية مرجية – كاتبة صحفية مجسرة وموجهة مجموعات
شبكة فلسطين للأنباء – شفا الشبكة الفلسطينية الاخبارية | وكالة شفا | شبكة فلسطين للأنباء شفا | شبكة أنباء فلسطينية مستقلة | من قلب الحدث ننقل لكم الحدث .