
الوحدة المجتمعية: ركيزة الصمود وبوابة العبور نحو الوحدة الوطنية ، بقلم : د. عمر السلخي
المجتمع الفلسطيني بين التشرذم والتماسك
منذ أكثر من عقد ونصف، يعيش الشعب الفلسطيني انقسامًا سياسيًا انعكس سلبًا على مختلف مناحي الحياة، هذا الانقسام فتح ثغرات حاول الاحتلال استغلالها، من خلال تكثيف الاستيطان، السيطرة على الموارد، وإضعاف البنية الوطنية الجامعة. وفي ظل تعثر مسارات المصالحة الوطنية، تبرز الوحدة المجتمعية كخيار استراتيجي لا غنى عنه، ليس بديلًا عن الوحدة الوطنية بل مكمّلًا لها وضامنًا لعدم انهيار النسيج الاجتماعي.
مفهوم الوحدة المجتمعية: من التكافل إلى الشراكة
الوحدة المجتمعية لا تعني فقط التعاون التقليدي بين العائلات والجماعات، بل هي مشروع متكامل يقوم على:
التكافل الاجتماعي عبر دعم الأسر الفقيرة وأهالي الأسرى والشهداء.
الشراكة المؤسسية بين النقابات والبلديات والجامعات.
المبادرات الشعبية التي تتجاوز الانقسام الحزبي نحو مصلحة عامة.
بهذا المعنى، تتحول الوحدة المجتمعية إلى منظومة قيمية وأخلاقية، وإلى إطار عمل يعيد إنتاج روح التعاون التي ميّزت المجتمع الفلسطيني في محطات تاريخية صعبة.
البعد الاقتصادي للوحدة المجتمعية
لا يمكن الحديث عن صمود دون اقتصاد متماسك. وفي هذا السياق، تلعب الوحدة المجتمعية دورًا محوريًا من خلال:
دعم المشاريع الصغيرة العائلية والتعاونية الزراعية.
تعزيز ثقافة “المنتج الوطني” في مواجهة الإغراق الإسرائيلي للأسواق.
تأسيس صناديق مجتمعية لتأمين التعليم والصحة للفقراء.
مبادرات الاقتصاد المقاوم، مثل زراعة الأراضي المهددة بالمصادرة أو استصلاحها بشكل جماعي.
لان الاقتصاد المقاوم يبدأ من المجتمع، من الحديقة المنزلية وحقل المزارع ومن ورشة الحرفي، لا من السياسات العليا وحدها.
البعد الثقافي والمعرفي: الهوية كحائط صد
الثقافة الفلسطينية شكلت على الدوام جسرًا للتواصل بين مكونات المجتمع، وفي غياب وحدة سياسية، تصبح الثقافة الوطنية عاملًا جوهريًا لصون الهوية الجامعة ،ويتجلى ذلك في:
الفنون الشعبية التي توحد الفلسطينيين في الداخل والشتات.
الرواية الأدبية والمسرح والسينما كوسائل لتعزيز الوعي الجمعي.
التعليم كأداة لترسيخ القيم الوطنية، بعيدًا عن التجاذبات الحزبية.
يقول غسان كنفاني: “الثقافة مقاومة، لأنها تعني الوعي، والوعي أول خطوات التحرر”. وهنا يبرز دور المثقفين والمؤسسات الأكاديمية في تغذية الوحدة المجتمعية بالوعي والهوية.
الشباب والمرأة: قلب الوحدة المجتمعية النابض
الشباب والمرأة هما العنصر الأكثر ديناميكية وقدرة على تجديد أشكال الوحدة:
الشباب يوظفون الإعلام الرقمي لإطلاق مبادرات عابرة للانقسام السياسي.
المرأة الفلسطينية تقود مشاريع اقتصادية صغيرة، وتشارك في العمل الأهلي، وتبني جسور التضامن.
الشتات الفلسطيني: وحدة تتجاوز الحدود
الشتات الفلسطيني، الممتد من مخيمات لبنان وسوريا والأردن إلى أوروبا والأمريكيتين، يشكل بعدًا استراتيجيًا في تعزيز الوحدة المجتمعية، فالفلسطينيون في الخارج لم ينفصلوا يومًا عن قضايا الداخل، بل كانوا رافعة سياسية واقتصادية وثقافية من خلال:
التحويلات المالية التي تسند عائلات بأكملها، وتشكل مصدرًا رئيسيًا للاقتصاد الفلسطيني.
اللوبيات والجاليات التي تضغط على الحكومات الغربية لوقف دعم الاحتلال أو الاعتراف بالدولة الفلسطينية.
المنابر الثقافية والإعلامية التي تحافظ على الرواية الفلسطينية حيّة في وجه محاولات التزوير.
الوحدة المجتمعية كرافعة للوحدة الوطنية
الوحدة المجتمعية ليست مجرد “حالة اجتماعية”، بل هي أداة ضغط سياسية ناعمة تدفع القيادات نحو المصالحة، لأنها تُبقي مطلب الوحدة حيًا في الشارع الفلسطيني، لقد علّمنا التاريخ أن الشعوب التي تصون وحدتها الاجتماعية تستطيع فرض وحدتها السياسية.
كما قال الشهيد ياسر عرفات: “الوحدة الوطنية هي سر بقائنا، ومن دونها لن يكون لنا مكان تحت الشمس”. وإذا كانت هذه الوحدة السياسية قد تعثرت، فإن الوحدة المجتمعية قادرة على إبقاء جذوتها مشتعلة حتى يتحقق اللقاء الجامع.
نحو مشروع وطني جامع
إن الفلسطينيين بحاجة إلى رؤية مزدوجة:
- وحدة مجتمعية تُحصّن الجبهة الداخلية، وتخلق اقتصادًا مقاومًا، وتحافظ على الهوية والثقافة الوطنية، وتستثمر قوة الشتات.
- وحدة وطنية سياسية تعيد صياغة البرنامج الوطني لمواجهة الاحتلال.
وبهذا تصبح الوحدة المجتمعية ركيزة الصمود الفلسطيني، وبوابة العبور نحو الوحدة الوطنية، وضمانة أكيدة لاستمرار مشروع التحرر حتى نيل الحرية والاستقلال.