
غزة ، حيث يذبح نصف مليون إنسان والعالم يكتفي بالفرج ، بقلم : المهندس غسان جابر
منذ اندلاع العدوان الصهيوني على قطاع غزة، تتوالى الأرقام الرسمية وغير الرسمية حول عدد الشهداء. وزارة الصحة في غزة تحدثت حتى الآن عن أكثر من 55 ألف شهيد موثّقين بالاسم، نصفهم تقريباً من النساء والأطفال. لكن دراسات مستقلة مثل تلك التي نشرتها مجلة The Lancet الطبية العريقة أشارت إلى أنّ الأرقام المعلنة قد تكون أقل من الواقع بما يقارب 41%، ما يرفع الحصيلة إلى نحو 64,260 شهيداً حتى لحظة التقدير.
غير أنّ الباحثين الأكاديميين، البروفيسور جدعون بوليا والدكتور ريتشارد هيل، توصلا إلى تقديرات أكثر خطورة. فبناءً على دراسات علمية مقارنة لحروب سابقة، فإنّ لكل ضحية مباشرة من القصف أو الرصاص، هناك أربعة ضحايا غير مباشرين يموتون بفعل المجاعة، الأمراض، غياب الدواء، وانهيار المنظومة الصحية. وفق هذه المعادلة، يصل العدد الحقيقي للشهداء الفلسطينيين في غزة إلى حدود 680,000 إنسان بحلول أبريل 2025، بينهم قرابة 380,000 طفل دون الخامسة. هذه ليست مجرد أرقام، بل كارثة وجودية، إبادة جماعية مكتملة الأركان يشهدها العالم على الهواء مباشرة.
لماذا تختلف الأرقام؟
- القصور في التوثيق الميداني: كثير من الضحايا ما زالوا تحت الركام أو دفنوا بشكل جماعي دون تسجيل دقيق.
- الحصار وانعدام الشفافية المفروضة بالقوة: الاحتلال يمنع المنظمات المستقلة من دخول غزة لإجراء إحصاءات شاملة.
- الفارق بين الوفيات المباشرة وغير المباشرة: المؤسسات الرسمية تسجّل من قضوا بالقصف، بينما يغيب التقدير للضحايا الذين ماتوا بسبب الجوع والأمراض وانعدام الخدمات.
- الخطاب السياسي الدولي: هناك رغبة غربية في تقليل حجم الأرقام حتى لا يتأكد توصيف “الإبادة الجماعية” قانونياً.
البعد السياسي الفلسطيني
هذه الإبادة كشفت بوضوح أزمة البنية السياسية الفلسطينية. فالفصائل، رغم صمود المقاومة العسكرية، لم تنجح في تحويل الكارثة إلى رافعة سياسية ودبلوماسية بحجم التضحيات. غابت القيادة الموحدة، وتشتّت القرار الفلسطيني بين عواصم مختلفة، بينما يعيش الشعب تحت قصف يومي وإبادة صامتة.
لقد بقي النشاط الفصائلي أسير بيانات وتصريحات موسمية، دون أن ينجح في صناعة جبهة وطنية عريضة قادرة على فرض الملف الفلسطيني على طاولات القرار الدولي كما ينبغي. إنّ مأساة غزة ليست مجرد مأساة إنسانية، بل هي مأساة سياسية تعكس عجز النظام السياسي الفلسطيني عن الارتقاء إلى مستوى الدماء المسفوكة.
الخذلان العربي
الأدهى من ذلك هو الموقف العربي. الأنظمة العربية، باستثناء أصوات شعبية هنا وهناك، بقيت في مربع العجز، وبعضها ذهب إلى مربع التواطؤ عبر التطبيع أو صفقات سياسية واقتصادية. غزة تُباد، بينما تعقد القمم العربية بياناتها الدبلوماسية الباردة التي لا تتجاوز حدود الورق.
لقد تحولت قضية فلسطين من عنوان التحرر العربي إلى ملف جانبي يُدار عبر “المساعدات الإنسانية” و”الوساطات” التي لا توقف حرباً ولا تحمي طفلاً من الموت جوعاً. هذا الصمت والتواطؤ يرسخ حقيقة مرة: أن الأمة العربية غابت في لحظة اختبارها التاريخي، وتركت غزة وحدها تواجه الإبادة.
نقول: الأرقام الحقيقية للشهداء في غزة ليست مجرد بيانات طبية أو إحصاءات جامدة، بل هي شهادة على أكبر جريمة إبادة جماعية في القرن الحادي والعشرين. الاختلاف بين الأرقام الرسمية والتقديرات المستقلة يكشف حجم الفجوة بين ما يُعلن وما يُخفى، لكنه أيضاً يكشف قصور الفلسطينيين والعرب عن تحويل هذه الفاجعة إلى قوة سياسية رادعة.
إنّ غزة اليوم لا تحتاج إلى بيانات تضامن عاطفية، بل إلى إرادة سياسية فلسطينية موحدة، وإلى موقف عربي صريح يرقى إلى مستوى الدم، لا إلى مستوى الصفقات. وما لم يتحقق ذلك، فإنّ كل شهيد جديد سيظل شاهد عيان على عجز القيادات وخيانة الأنظمة.
- – م. غسان جابر – مهندس و سياسي فلسطيني – قيادي في حركة المبادرة الوطنية الفلسطينية – نائب رئيس لجنة تجار باب الزاوية و البلدة القديمة في الخليل.