4:22 مساءً / 14 سبتمبر، 2025
آخر الاخبار

الكلمة التي لا تُقصف ، الإعلام الرسمي الفلسطيني في مواجهة حرب الحقيقة ، بقلم: د. منى أبو حمدية

الكلمة التي لا تُقصف ، الإعلام الرسمي الفلسطيني في مواجهة حرب الحقيقة ، بقلم: د. منى أبو حمدية


لم يكن اغتيال ثلاثةٍ وعشرين صحفياً وصحفية من الإعلام الرسمي الفلسطيني حدثًا عابرًا في سجل الجرائم الإسرائيلية، بل كان جريمة مضاعفة، لأنها استهدفت الإنسان والكلمة معًا. فالصحفي في فلسطين لا يحمل الكاميرا أو القلم بوصفهما أدوات مهنية فحسب، بل كسلاح مقاومة يواجه به ماكينة التضليل والإخفاء. حين يخرج إلى الميدان، يكون مدركًا أن الصورة التي يلتقطها قد تكون آخر ما تلتقطه عدسته، وأن الكلمة التي يكتبها قد تُصبح وصيته الأخيرة. ومع ذلك، يواصل مهمته كمن يذهب إلى المعركة بوعيٍ كامل أن ثمن الشهادة قد يكون حياته.


لقد أراد الاحتلال من خلال استهداف هؤلاء الإعلاميين أن يطفئ النور الذي يفضح ظلامه، وأن يخرس الأصوات التي تنقل للعالم صرخة طفل يبحث عن أمه تحت الركام، وأن يمنع وصول الحقيقة إلى أبعد مدى ممكن. فالصحافة الفلسطينية، وفي مقدمتها الإعلام الرسمي، لم تكن مجرد ناقل للأخبار، بل شاهدة على المجازر، موثقةً للحظة الإنسانية في أقسى ظروفها، حافظةً لذاكرة الأرض والإنسان.


وجاء استهداف المقر السابق لهيئة الإذاعة والتلفزيون في غزة ليكمل مشهد العدوان. لم يكن المبنى في جوهره مجرد حجرٍ أو جدران، بل رمزًا لمعركة الإرادة، ومنبرًا ظل لعقود يحكي الحكاية الفلسطينية بصوتٍ واحدٍ جامع. وحين قُصف المبنى، كان الاحتلال يوجّه رسالة واضحة: “لن نسمح للرواية الفلسطينية أن تُسمع”. غير أن ما غاب عن حساباته هو أن الحقيقة لا تقيم في مبنى، ولا تُحاصر بجدار، فهي أوسع من حدود المكان، وأعمق من قدرة الصواريخ على طمسها.


إن اغتيال الكلمة واستهداف المقر ليسا سوى تعبير صارخ عن خوف الاحتلال من الإعلام الحر. فالسلطة الغاشمة، حين تعجز عن مواجهة الحقيقة بالحجة والبرهان، تلجأ إلى إسكاتها بالنار والحديد. لكن التجربة الفلسطينية أثبتت أن كل محاولةٍ لإخماد الصوت، تولّد أصواتًا أكثر وأقوى، وأن كل شهيد من الصحفيين يُخلف وراءه جيلاً جديدًا من حراس الكلمة، يصرّون على أن تظل الحقيقة حيةً، عصيّةً على القمع والمحو.


منذ اللحظة الأولى لقيام المشروع الاستعماري الصهيوني، أدرك الاحتلال أن البندقية وحدها لا تكفي لتثبيت روايته المزيفة، فاستند إلى ماكينة إعلامية وسياسية ضخمة، تسعى لتزييف الحقائق، وصناعة صورة مشوّهة للضحية والجلاد. ولأن الرواية الفلسطينية تقف نقيضًا لهذه الأكاذيب، كان لا بد من محاربتها، سواء عبر التشويه المتعمد، أو عبر قصف المنابر الإعلامية الفلسطينية في الميدان.


إن استهداف الإعلام الرسمي الفلسطيني ليس فعلًا معزولًا عن سياق هذه الحرب الطويلة؛ بل هو امتداد لمحاولة مستمرة لاحتكار الحقيقة، وتقديمه للعالم صورة مشوهة عما يجري في فلسطين. فالمحتل يعلم أن كاميرا صحفي شجاع قادرة على هزّ الضمير الإنساني أكثر مما تفعل تقارير المنظمات التي قد تُطوى في الأدراج. لذلك، فإن كل صورة لطفل يخرج من تحت الأنقاض، وكل شهادة لامرأة فقدت أبناءها، وكل صوت يصرخ “نحن هنا” تشكّل تهديدًا وجوديًا لآلة التضليل التي يعمل الاحتلال على تغذيتها منذ عقود.


ولعل ما يجعل هذه الحرب أكثر خطورة أنها لا تُدار فقط بالسلاح، بل بالتحالف مع وسائل إعلام عالمية ضخمة غالبًا ما تعيد إنتاج الرواية الإسرائيلية بوعي أو من دون وعي. وفي مقابل ذلك، يقف الإعلام الفلسطيني، وعلى رأسه الإعلام الرسمي، كمقاتل أعزل إلا من صدقه، يحاول أن يشق طريقه وسط التشويه والتهميش، ليُثبت أن الرواية الفلسطينية ليست مجرد سردية محلية، بل هي حقيقة إنسانية عالمية.


وإذا كان الاحتلال يرى في قصف المقرات الإعلامية “انتصارًا تكتيكيًا” يسهم في إخفاء الحقيقة لبعض الوقت، فإن التجربة تؤكد أن هذه السياسة لا تفعل سوى العكس. فكل مبنى إعلامي يُقصف يتحول إلى شاهد جديد على الجريمة، وكل صحفي يُستشهد يصبح رمزًا خالدًا يُلهم الأجيال. هكذا تتحول محاولات الطمس إلى أسباب إضافية لانكشاف الرواية الفلسطينية أمام العالم، حيث تصبح الحقيقة أكثر وضوحًا، وأكثر قوة، وأكثر رسوخًا في الذاكرة الإنسانية.


رغم القصف والاستهداف، ورغم قائمة الشهداء الطويلة من الصحفيين والصحفيات، لم يتوقف الإعلام الرسمي الفلسطيني عن أداء رسالته الوطنية. هنا لا تكون الصحافة مجرد مهنة، ولا الكلمة مجرد أداة لنقل الخبر، بل تتحول إلى عهدٍ أخلاقي ووعدٍ وطني، يقوم على الوفاء لدماء الشهداء وصمود الأسرى وآلام الجرحى. إن كل تقرير يُبث من غزة أو من أي مدينة فلسطينية ليس مجرد مادة إعلامية، بل وثيقة تحفظ حقّ الشعب في ذاكرته، وتؤكد وجوده في مواجهة محاولات الطمس والإلغاء.


لقد حاول الاحتلال، مرارًا وتكرارًا، أن يجعل من الخوف سلاحًا لإسكات الإعلاميين، لكن النتيجة كانت عكسية. كلما ارتقى شهيد من الصحافة، خرجت أصوات جديدة، أكثر جرأة وإصرارًا، لتؤكد أن الرسالة لن تُدفن مع أصحابها. فالإعلامي الفلسطيني لا ينظر إلى عمله كوظيفة محدودة بساعات دوام، بل كرسالة ممتدة، ترتبط بالمصير الجماعي لشعب بأكمله.


إن هذه الرسالة المتجاوزة للتضحية تجعل الإعلام الرسمي مدرسة حقيقية في الوطنية؛ مدرسة تعلّم أن الكاميرا قد تكون أقوى من المدفع، وأن الصدق في نقل معاناة الناس أعظم من كل محاولات التزييف. ومن هنا، فإن الإعلام الفلسطيني لم يعد مجرد شاهد على المأساة، بل شريك في صناعة الوعي الجمعي، ومقاوم بالكلمة والصورة، يثبت أن الحرية لا تُنال إلا عبر التضحيات الجسام.


حين قصف الاحتلال مبنى هيئة الإذاعة والتلفزيون في غزة، ظن أن الخراب المادي سيقود إلى خراب معنوي، وأن ركام الجدران سيطمر الحقيقة إلى الأبد. لكن ما لم يدركه أن المباني قد تُهدم، بينما الذاكرة عصيّة على القصف. الحقيقة لا تسكن في الجدران، بل في صدور الشهود، وفي عدسات الكاميرات التي نقلت المشهد، وفي ملايين العيون التي شاهدت المأساة وتناقلتها حول العالم.


لقد أثبت الإعلام الرسمي الفلسطيني أن الذاكرة ليست أوراقًا يمكن حرقها، ولا أشرطة يمكن محوها، بل هي حياة تتجدد في كل جيل. وحين يسقط مبنى، ينبعث من تحت الركام معنى جديد يضاعف قوة الرسالة. فالصور التي التُقطت لجدرانٍ متداعية وأجهزة محطمة لم تكن مجرد دليل على العدوان، بل تحولت بحد ذاتها إلى شهادة دامغة تُعرض أمام الضمير العالمي، وتقول: “هنا كانت الحقيقة، وهنا حاولوا قتلها، لكنهم فشلوا”.


إن الإعلام الرسمي، بوفائه لدماء شهدائه، يواصل حمل الأمانة ليؤكد أن الحقيقة لا تموت، وأنها مثل الزيتون الفلسطيني، تُقطع أغصانه لكن تبقى جذوره راسخة في الأرض. وهكذا يصبح كل اعتداء على الإعلام محاولة يائسة، تعجز عن محو الذاكرة، وتفشل في دفن الرواية. الكلمة الحرة تظل أبدًا عصيةً على الاندثار، تنبعث من جديد مع كل جيل، لتبقى منارةً تُنير دروب الحرية، مهما طال ليل الاحتلال.


إن استهداف الإعلام الرسمي الفلسطيني، بدمائه ومقراته ووسائله، ليس سوى جزء من حرب شاملة على الحقيقة. ومع ذلك، أثبت الإعلاميون الفلسطينيون أنهم حراس الذاكرة، وأمناء الكلمة، وسدنة الرواية التي تأبى أن تُمحى. فكل شهيد منهم يتحول إلى أيقونة، وكل مبنى يُقصف يصبح شاهدًا على جريمة جديدة، وكل كلمة تُقال في وجه القمع تتحول إلى بذرة وعي تتناقلها الأجيال.


لقد أراد الاحتلال أن يُخرس الصوت، فإذا به يوقظه في قلوب الملايين. وأراد أن يدفن الحقيقة تحت الركام، فإذا بها تنهض أكثر صلابة وإشراقًا. وهكذا يظل الإعلام الرسمي الفلسطيني، رغم الجراح، منارة تُضيء دروب الحرية، وجسرًا يصل الحكاية الفلسطينية بالعالم، ليبقى القول الفصل: الكلمة الحرة لا تُقصف، والذاكرة لا تُهزم، والحقيقة لا تموت.

  • – د. منى أبو حمدية أكاديمية وباحثة – فلسطين .

شاهد أيضاً

الاحتلال يقتحم مدرسة بنات الخضر الأساسية

شفا – اقتحمت قوات الاحتلال الإسرائيلي، اليوم الأحد، مدرسة بنات الخضر الأساسية، واعتدت بالضرب على …