3:49 مساءً / 11 سبتمبر، 2025
آخر الاخبار

المقامات في فلسطين …، ذاكرة الروح والتاريخ المهدد بالاندثار ، بقلم : د. عمر السلخي

المقامات في فلسطين … ، ذاكرة الروح والتاريخ المهدد بالاندثار ، بقلم : د. عمر السلخي


على امتداد الجغرافيا الفلسطينية، من سفوح الجبال إلى عيون الماء وأشجار البلوط والتين، تنتصب المقامات الدينية شاهدة على علاقة الفلسطيني بالأرض والسماء معاً. ليست المقامات مجرد مبانٍ حجرية أو قباب صغيرة، بل هي مزيج من الإيمان والذاكرة والهوية؛ أماكن عبادة، وفضاءات اجتماعية، وحكايات متوارثة تشكّل جزءاً أصيلاً من التراث الفلسطيني.

جذور ممتدة من الكنعانيين إلى العثمانيين

تاريخ المقامات في فلسطين ليس طارئاً؛ فالمصادر التاريخية تشير إلى أن جذورها تعود إلى الطقوس الكنعانية قبل أكثر من ثلاثة آلاف عام، حيث كانت الممارسات الدينية تُقام على المرتفعات قرب الأشجار والينابيع. لاحقاً، ومع العصر الأيوبي والمملوكي، ازدهرت المقامات بشكل ملحوظ. فمثلاً، مقام النبي صالح في حلحول عام 1226م، ، ووسّع مقام النبي موسى عام 1269م. ومع العهد العثماني، زاد عدد المقامات بشكل مطّرد حتى أصبحت لا تكاد تخلو قرية أو بلدة من مقام أو أكثر.

أماكن عبادة وملتقى اجتماعي

تشير معطيات الدراسة إلى أن المقامات لم تكن مجرد أماكن للزيارة، بل مراكز حياة اجتماعية وثقافية. عندها كانت تُقام الصلوات وتُوفى النذور وتُحكى الحكايات الشعبية. بعض الطقوس ارتبطت بالزراعة، مثل تقديم بواكير المحاصيل وزيت الزيتون شكراً لله. كما ارتبطت بأفراح القرية: ختان الأطفال، الأعراس، والاحتفالات الشعبية المصحوبة بالأهازيج والطبول. في كثير من الأحيان كانت المقامات مقصداً للفزعة الجماعية، ومكاناً لحل الخلافات والنزاعات المحلية.

مقامات كفل حارس بين التاريخ والاستهداف

تُعد بلدة كفل حارس في محافظة سلفيت نموذجاً بارزاً على حضور المقامات الدينية في فلسطين. فهي تحتضن ثلاثة مقامات رئيسية: مقام يوشع بن نون، ومقام ذو الكفل، ومقام ذي النون. هذه المقامات ارتبطت عبر القرون بمواسم دينية واجتماعية وفلاحية، وكانت محجّاً للفلسطينيين من القرى المحيطة.


لكنها اليوم تواجه تهديداً مضاعفاً؛ إذ تتعرض لاقتحامات متكررة من قبل المستوطنين تحت حماية جيش الاحتلال، الذي يسعى إلى فرض رواية توراتية مزيفة على المكان. وبذلك تتحول مقامات كفل حارس إلى ساحة صراع بين موروث فلسطيني أصيل ضارب في التاريخ، وبين محاولات تهويد متعمدة لسرقة الذاكرة والمكان.

نكبة المقامات بعد 1948

قبل نكبة فلسطين عام 1948، كان هناك ما يزيد على 480 مقاماً منتشرة في القرى والمدن الفلسطينية. لكن مع التهجير والتدمير الممنهج، أُزيلت المقامات أو حُوِّلت عن هويتها الأصلية. فبحسب معطيات وزارة السياحة والآثار الفلسطينية، بقي في الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس فقط 395 مقاماً، فيما ضاعت عشرات المقامات الأخرى داخل الأراضي المحتلة عام 1948. كثير منها تحوّل إلى كنس يهودية أو مطاعم ومقاهٍ، مثل مقام النبي داوود في القدس ومقام النبي صموئيل قرب بيت لحم. هذه العملية لم تكن مجرد هدم للأحجار، بل محاولة لطمس موروث حضاري متجذر في الذاكرة الجمعية الفلسطينية.

إرث حضاري يحتاج إلى إنقاذ

اليوم، ما تبقى من المقامات ما زال يعاني الإهمال وغياب الترميم. ومع ذلك، تبقى هذه المقامات وثيقة حية على عمق الهوية الفلسطينية وتجذرها في المكان. فهي جزء من المشهد الحضاري، وعلامة على ارتباط الإنسان الفلسطيني بأرضه وسماءه عبر آلاف السنين.

ولكي لا تضيع المقامات لا بد من تبني سياسات عملية للحفاظ عليها، يمكن تلخيصها في:

التوثيق والأرشفة الرقمية:


إطلاق مشروع وطني لتوثيق جميع المقامات الفلسطينية بالصور، الخرائط، والروايات الشعبية، وربطها بقواعد بيانات إلكترونية مفتوحة للأجيال القادمة.

الترميم والحماية الميدانية:


تخصيص ميزانيات من وزارتي الاوقاف و السياحة والآثار لترميم المقامات المهددة بالانهيار، ووضع لوحات تعريفية حول تاريخها، مع تعزيز تواجد حراس محليين لحمايتها من الاعتداءات.

التشريعات الوطنية:


سنّ قوانين تُجرّم العبث بالمقامات أو تغيير معالمها، وتلزم البلديات والمجالس المحلية بوضعها ضمن المخططات للحماية والحفاظ .

إدماجها في التعليم:


إدخال موضوع المقامات والتراث الشعبي في المناهج الدراسية والأنشطة الكشفية والطلابية لتعزيز ارتباط الأجيال الجديدة بها.

الترويج السياحي والثقافي:


إدراج المقامات في مسارات السياحة الداخلية والدينية، وتنظيم مهرجانات ثقافية حولها لإحياء الذاكرة وربطها بالموروث الشعبي.

الضغط القانوني الدولي:


تسجيل المقامات المهددة ضمن قوائم التراث العالمي (اليونسكو) أو التراث المعرّض للخطر، لكسب حماية دولية ومواجهة محاولات الاحتلال تهويدها.

بهذه السياسات يمكن تحويل المقامات من مواقع مهددة إلى مراكز حية للذاكرة والهوية الفلسطينية، تحفظ التاريخ وتُبقيه حاضراً في وعي الأجيال القادمة.

شاهد أيضاً

اللجنة التحضيرية لانتخابات المجلس الوطني تعقد اجتماعها الرابع

اللجنة التحضيرية لانتخابات المجلس الوطني تعقد اجتماعها الرابع

شفا – عقدت اللجنة التحضيرية لانتخابات المجلس الوطني الفلسطيني، اليوم الخميس، اجتماعها الرابع، وذلك في …