
ريح عابرة أم عاصفة؟ الإشاعة في زمن الأزمات الفلسطينية ، بقلم : د. عمر السلخي
حين تولد الكلمة وتكبر
في أرضٍ اعتادت أن تُثقلها الأخبار الثقيلة، وتنهش يومها التفاصيل الصغيرة، تولد الإشاعة ككلمةٍ عابرة، كنسمةٍ لا يلتفت إليها أحد، ثم ما تلبث أن تتحول إلى عاصفة تقتلع الطمأنينة من القلوب. في فلسطين، حيث الاحتلال يطارد الفرح من البيوت، والغلاء يزاحم الرغيف على موائد الفقراء، والرواتب تُشبه الغائب الذي يُنتظر فلا يأتي، تصبح الإشاعة جزءاً من المشهد اليومي، كظلٍ لا ينفك يتكرر مع كل صباح.
فراغ الحقيقة… بيئة خصبة للشائعات
الإشاعة ليست مجرد خبرٍ بلا أصل، بل انعكاس لقلقٍ عميق يسكن النفوس، وصدى لعجزٍ يحاول أن يجد له مخرجاً بالكلام. فالناس الذين أرهقهم الغياب الطويل للحقيقة، وتاهوا بين تصريحات متناقضة ووعود مؤجلة، صاروا أسرع التصاقاً بما يُشاع، وكأنهم يبحثون في ظلال الكلام عن يقينٍ مفقود.
سلاح خفي في يد الاحتلال
الاحتلال يدرك أن الكلمة إذا سارت بين الناس بلا ضابط، قد تُحدث ما تعجز عن فعله الطلقة. إشاعة عن الراتب قد تربك آلاف الأسر، إشاعة عن الانقسام قد تزيد الشرخ اتساعاً، وإشاعة عن حدث أمني قد تزرع الخوف وتُربك الشارع في ساعات. إنها حرب على الوعي، تُدار بذكاء، وتستهدف ضرب الثقة بين المواطن ومؤسساته.
وسائل التواصل… تسونامي المعلومة الزائفة
في زمن الفضاء الرقمي، تتضاعف سرعة انتشار الإشاعة، وتتحول في ساعات قليلة إلى “خبر” يتناقله الآلاف دون تحقق أو تدقيق. ومع غياب المرجعيات الموثوقة أو بطء الاستجابة الرسمية، تتسع مساحة الفوضى، ويتضاعف أثر البلبلة على المجتمع.
كيف نواجه العاصفة؟
المعركة مع الإشاعة ليست إنكاراً أو تكذيباً فقط، بل بناء بيئة معلوماتية حصينة، قادرة على إفشالها قبل أن تتمدد:
إعلام وطني شفاف يسبق الشائعة ولا يتأخر عنها.
حكومة واضحة توصل المعلومة في وقتها، قبل أن تُترك فراغات تُملأ بالظنون.
تربية إعلامية تُحصن الأجيال بمهارات التحقق من المصادر.
شراكة مجتمعية تجمع الإعلام، والمجتمع المدني، والوجهاء لنشر الرواية الصحيحة.
حملات رقمية واعية لمواجهة المعلومة الزائفة في فضائها.
من همس الظنون إلى وعي الحقيقة
الإشاعة لا تقتل جسداً، لكنها قد تقتل الثقة. وإذا ضاعت الثقة، انفرط عقد الصمود. لذلك، فإن معركتنا مع الإشاعة لا تقل قداسة عن معركتنا مع الاحتلال ذاته، فهي معركة على الوعي، والوعي هو سلاح البقاء الأول في زمن الأزمات.