5:12 مساءً / 24 أغسطس، 2025
آخر الاخبار

المدينة التي تعبرها الوجوه ، بقلم : محمد علوش

المدينة التي تعبرها الوجوه ، بقلم : محمد علوش

وصلت رام الله باكراً، عند السادسة والنصف صباحاً، والمدينة ما تزال تتثاءب من نعاس الليل، كأنها تفتح عينيها ببطء على المارين الأوائل.


كان الهواء خفيفاً بارداً يلامس وجهي، محمّلاً برائحة الندى، فيما يلفّ المدينة صمتٌ رقيق، صمتٌ يسبق الضجيج اليومي، كوقفة بين حلمٍ لم ينته بعد وواقع يستعدّ للانفجار بالحركة.


في شارع الإرسال، كان أول ما أسرني بائع قهوة يقف خلف عربة صغيرة تتصاعد منها أبخرة البنّ، تناولتُ فنجاناً ورقياً، أرفعه إلى شفتيّ كأنني أرتشف يقظة المدينة ذاتها، فالقهوة هنا ليست مجرد مشروب، بل بداية عهدٍ بين الغريب والمكان، بين العابر وذاكرة المدينة.


سرت نحو دوّار المنارة، حيث الأسود الأربعة تواصل حراسة المدينة منذ عقود، كأنها تشهد على ما لا يُحصى من قصص الناس وأقدامهم، وهناك، تتقاطع الطرق والوجوه، موظفون بربطات عنق يستعجلون مكاتبهم، عمال يجرّون أجسادهم المثقلة بليلٍ قصير، طلاب يفيضون بدفاترهم وأحلامهم، وباحثون عن فرصة ما في الحياة يضيئون ملامحهم بالانتظار، وكان المشهد يكتمل بجموع النساء القادمات من القرى البعيدة، يحملن سلال التين والعنب والصبّر، يفرشنها على الأرصفة في صمت، كأنهن يضفن على صباح رام الله نكهة الحقول ورائحة التراب الطازج.


من المنارة انعطفت نحو شارع ركب، حيث تختلط المحلات القديمة بالمقاهي الحديثة، واللافتات بأسماء عائلات صنعت حضورها في قلب المدينة، ثم عدت إلى ميدان الساعة، وكأن الدوران في رام الله قدرٌ لا يفلتك، تعود دائماً إلى قلبها لتتأكد أن النبض لم يتوقف.


ومرة أخرى مررت بالمنارة، لكن رائحة الفلافل الساخنة من محل صغير جذبتني، كأنها دعوة إلى أن أتذوّق البساطة التي تفوق كل مظاهر الحداثة، فهناك، بين لقمة مشبعة بالزيت والنعناع، وفنجان القهوة الأول، تتكشف حقيقة المدينة، أنها ليست حجراً ولا إسفلتاً، بل وجوه ناسها، ملامحهم المثقلة بأحمالهم، بأحلامهم، بانتظارهم الطويل.


في رام الله، كل وجهٍ فصل من رواية، كل خطوة سطر جديد، فهذه المدينة تحمل في صباحها المبكر مزيجاً من الأمل والإرهاق، من التطلع والحيرة، من الحلم الثقيل الذي يشبه القهوة الأولى، مرٌّ لكنه ضروري، وسهولة الوصول إليها في تلك الساعة المبكرة تمنحك شعوراً عابراً بالحرية، قبل أن يمدّ الاحتلال يده ليغلق أبوابها بالحواجز ويحوّل الطريق إلى اختبار يوميّ مرير.


رام الله، في تلك اللحظة، ليست مجرد مدينة؛ إنها مرآة كبرى تريك وجوه فلسطين كما هي، تعبٌ لا ينكسر، وأملٌ لا يموت.

شاهد أيضاً

بيان صحفي صادر عن الاجتماع الموسع لفعاليات اليوم الوطني لاسترداد جثامين الشهداء

بيان صحفي صادر عن الاجتماع الموسع لفعاليات اليوم الوطني لاسترداد جثامين الشهداء

شفا – عُقد اليوم في مقر منظمة التحرير الفلسطينية بمدينة رام الله، اجتماع موسّع بمشاركة …