3:05 مساءً / 21 أغسطس، 2025
آخر الاخبار

الاستئثار بالمفاهيم الوطنية بين صمود الشعب واستثمار الشعارات : قراءة نقدية في زمن الإبادة ، بقلم : هاني ابو عمرة

الاستئثار بالمفاهيم الوطنية بين صمود الشعب واستثمار الشعارات : قراءة نقدية في زمن الإبادة ، بقلم : هاني ابو عمرة

في خضم حرب الإبادة المستمرة التي يشنها الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة منذ ما يقارب العامين، ومع التصعيد المتواصل في الضفة الغربية والقدس، تتكشف يومًا بعد يوم أهداف الاحتلال المعلنة والمضمرة، والتي لم يعد قادتها يتورعون عن التصريح بها علنًا: تهجير، تدمير، كسر إرادة الشعب الفلسطيني، وإعادة صياغة المشهد الجغرافي والبشري بما يخدم المشروع الصهيوني طويل المدى. وفي مواجهة هذا الوضوح الفج في النوايا الإسرائيلية، يبرز على الساحة الفلسطينية سجال داخلي محتدم، لا يقل خطورة – في أثره على الوعي الوطني – عن أدوات الاحتلال نفسها.

ليست هذه المرة الأولى التي نشهد فيها محاولة طرف سياسي فلسطيني الاستئثار بمفهوم وطني جامع، وتقديمه على أنه الحكر الخاص به وحده. فقبل سنوات، ومع صعود نمط معين من الفعل المسلح، جرى تضييق تعريف “المقاومة” ليصبح مرادفًا لمشروع سياسي بعينه، بحيث وُسم كل من خرج عن خطه بالخيانة أو التفريط أو التساوق مع الاحتلال. واليوم، تتكرر ذات المعادلة، لكن بأداة خطابية مختلفة: مفهوم “الصمود”.


فبدل أن يُترك “الصمود” كقيمة جامعة تعبر عن إرادة البقاء والتحدي لدى كل الفلسطينيين، أُخضع مرة أخرى لعملية احتكار خطابية، بحيث جرى ربطه تلقائيًا بتوجه حزبي بعينه، فيما يُصوَّر أي رأي مخالف – مهما كانت دوافعه الوطنية – على أنه استسلام أو انكسار.

هذا المنطق المريض يفرّغ القيم الوطنية من مضمونها، ويحيلها إلى ختم حزبي يُوضع على الجباه: إما أن تنطق بشعاراتهم وتصفق لخياراتهم، أو تُلقى في خانة الخيانة والانهزامية. هكذا يصبح النضال الفلسطيني – بكل تضحياته ودمائه – رهينة عند جماعة سياسية تدّعي أنها تمثل “الإرادة الشعبية” وهي في الواقع تحتكرها وتشوّهها.

هذا الاحتكار لا يتوقف عند حدود الجدل الإعلامي، بل يمتد ليشكل عملية تزييف وعي، خطورتها أنها تحوّل النضال الوطني من ساحة تعدد أدوات ورؤى، إلى مربع ضيق تحكمه ثنائية مزيفة: إما معي فأنت مقاوم وصامد، أو ضدي فأنت خائن ومستسلم. وبهذا تتحول الشعارات الوطنية إلى أدوات إقصاء داخلية، بدل أن تكون جسرًا يوحد الشعب حول أهدافه الكبرى.


والنتيجة أن يُفرَض على الوعي الجمعي تصور أحادي لطبيعة المعركة، دون فسحة لتقييم التجارب أو نقد التكتيكات، حتى لو كانت النتائج على الأرض تشير بوضوح إلى إخفاقات أو أثمان باهظة فُرضت على المدنيين.

إن التجربة الجارية في غزة والضفة تكشف أن “العنترية” المغلفة بمصطلحات الصمود والمقاومة لم تنجح في حماية الشعب أو تجنيبه ويلات الحرب، بل ساهمت – بوعي أو دون وعي – في مضاعفة الكلفة الإنسانية والسياسية. ذلك أن القراءة القاصرة لطبيعة المعركة، والتي تركز على المظهر البطولي اللحظي وتتجاهل موازين القوى وتداعيات الميدان، قد تفضي إلى نتائج معاكسة للمصلحة الوطنية.

المقاومة الحقيقية ليست أن تدفع شعبك إلى الهاوية ثم تقول له: اصمد. المقاومة هي أن تختار أدوات الصراع التي تحقق مكاسب حقيقية وتكسر العدو، لا أن تكسّر ظهر شعبك.


وليس في هذا القول أي دعوة للتراجع عن الحق أو التنازل عن الثوابت، بل هو دعوة لإدراك أن المعركة ليست في رفع الشعارات، بل في إدارة الصراع بما يحقق أفضل النتائج لشعبنا، وأكبر الخسائر لمشروع العدو، وبأقل تكلفة ممكنة على المجتمع الفلسطيني.

الحقائق على الأرض تثبت أن ما يمكن اعتباره إنجازات استراتيجية في هذه الحرب، لم يأت من ساحات المواجهة العسكرية وحدها، التي استغلها الاحتلال على الدوام ليوغل في الدم الفلسطيني ويواصل ارتكاب ابادته الجماعية لشعبنا، بل من القدرة على تحطيم سردية الاحتلال في المحافل الدولية، وإعادة بناء سردية فلسطينية تُظهِر الشعب الفلسطيني كضحية جريمة مكتملة الأركان. هذا الجهد السياسي والدبلوماسي نجح في كسب تعاطف غير مسبوق في الرأي العام العالمي، وأحدث اختراقات في مواقف بعض الدول والمنظمات الدولية، الأمر الذي لا يقل أهمية عن الإنجاز العسكري، إن لم يكن أكثر تأثيرًا على المدى البعيد.


إن هذا المسار هو جزء أصيل من منظومة النضال الفلسطيني، والاكثر وعيا لطبيعة الصراع وضرورة ان تكون كافة الخيارات مفتوحة امام شعبنا لضمان بقائه وانتصاره، لأنه يستثمر سلاح الكلمة والحقيقة والصورة في فضح الجريمة وكسب الحلفاء.


وحين يحتكر طرف سياسي حق تعريف الصمود والمقاومة، فإنه عمليًا يضعف الجبهة الداخلية ويفتح ثغرات في الوعي الوطني يستغلها الاحتلال. الاحتلال لا يحلم بأكثر من شعب منقسم، يشتبك داخليًا على معاني المفاهيم، بدل أن يشتبك موحدًا ضد العدو. إن تحويل “الصمود” إلى علامة تجارية حصرية هو خيانة للمعنى الأصلي للكلمة، وإهدار لدماء الشهداء الذين قاتلوا من أجل الوطن لا من أجل مشروع حزبي.

ان الخروج من مأزق احتكار المفاهيم الوطنية يبدأ بإعادة الاعتبار لفكرة أن المقاومة والصمود ليستا ملكية خاصة لفصيل أو مشروع سياسي، بل هما تعبير عن إرادة شعب بأسره، تتجلى بأشكال متعددة: من العمل المسلح، إلى الفعل الشعبي، إلى الجهد السياسي والدبلوماسي، وحتى الصمود في وجه الحصار والجوع.


إن النضال الفلسطيني، منذ بداياته، نجح لأنه كان متعدد الأدوات ومفتوح الأفق، ولم ينتصر يومًا بخطاب أحادي أو رؤية مغلقة. واليوم، إذا أردنا أن نحمي شعبنا ونصون قضيته، علينا أن نتجاوز الخطاب الإقصائي، وأن نحتكم إلى ميزان المصلحة الوطنية لا ميزان المزايدات.

خاتمة

في زمن الإبادة، يصبح الصدق مع الذات شرطًا للانتصار. والصدق يعني أن نعترف بأن رفع الشعارات وحده لا يكفي، وأن الاستئثار بالمفاهيم الوطنية لتبرير رؤية سياسية ضيقة هو انحراف عن جوهر النضال الفلسطيني. المعركة الحقيقية هي مع الاحتلال، وأي سجال داخلي يحوّل الشعب إلى ساحات فرز على أساس الولاء السياسي، إنما يخدم – بوعي أو دون وعي – أهداف العدو.


فلنُعِد للمقاومة والصمود معناهما الأصيل: كفعل جماعي متنوع، هدفه الوحيد تحرير الأرض.

الوطن أكبر من أي فصيل، والصمود والمقاومة ليسا عقارًا مسجلاً في دائرة أراضي التنظيمات السياسية. كل فلسطيني يدافع عن حياته وأرضه وحقه هو مقاوم وصامد، سواء حمل بندقية، أو واجه جرافة بيديه، أو فضح الجريمة في منبر دولي، كل من تحمل برد الشتاء وحرارة الصيف اللاهية تحت سقف الخيمة، كل من صارع كل عوامل الفناء ليبقى هو مقاوم وصامد، كل امرأة وكل رجل وشيخ وشاب وطفل وفتاة واجه كل الوان الموت هو صامد ومقاوم.


ومن يختزل النضال في صورة واحدة، أو في شعار واحد، أو في مسار واحد، إنما يمارس وصاية على شعبه ويختزل صمود شعبنا في خطابه الضيق.

المعركة الحقيقية ليست بين من “يصمد” ومن “يستسلم”، بل بين من يقاتل الاحتلال فعلاً – بكل الأدوات – ومن يبيعنا شعارات فارغة ليغطي بها فشل رؤيته أو قصر نظره. الشعب الفلسطيني لا يحتاج إلى من يعلّمه معنى الصمود، فهو يمارسه منذ قرن ونيف عامًا دون إذن من أحد. ما يحتاجه شعبنا هو الوعي لدى العديد من القيادات كيف تحوّل هذا الصمود إلى انتصار، لا إلى وقود دائم لحروب لا تنتهي.

شاهد أيضاً

وزير الداخلية اللواء زياد هب الريح يلتقي رئيس مكتب تمثيل البرازيل

وزير الداخلية اللواء زياد هب الريح يلتقي رئيس مكتب تمثيل البرازيل

شفا – التقى وزير الداخلية اللواء زياد هب الريح رئيس مكتب تمثيل جمهورية البرازيل الاتحادية …