6:27 مساءً / 2 أغسطس، 2025
آخر الاخبار

التكيّف العاطفي وفلسفة مقاومة التعليم في فلسطين ، بقلم : نسيم قبها

التكيّف العاطفي وفلسفة مقاومة التعليم في فلسطين ، بقلم : نسيم قبها

من منطلق الصمود في قلب العاصفة التي تُدمِّر البنى التعليمية وتُمزِّق النسيج الاجتماعي المستهدف أيضا، يبرز مفهوم “التكيّف العاطفي” كفلسفة تربوية وجودية للمعلمين الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية جرّاء مشهد الجريمة على الجغرافيا الفلسطينية إنسانا ومكانا . هذا التطبيع في التكيّف ليس استسلاماً للواقع المُحتَل بالطبع ، بل هو آلية مراوغة نفسية واعية تُحوِّل الألم الممتد إلى فعل تربوي مغاير و مقاوم. فبينما يرفض المعلم المثقف مفهوم التكيّف السياسي المدفوع بالترويض مع الاحتلال ، فإنه يمارس تكيّفاً عاطفياً مع الهمّ اليومي، لتحويله إلى طاقة تعليمية خلاّقة رغم المعيقات.

التكيّف العاطفي هنا هو عملية ديناميكية تحوّل المعاناة إلى أداة تربوية: فالمعلم في خيمة النزوح أو تحت القصف ، أو في البيت المحاصر لا يملك ترف انتظار استقرار الظروف. إنه يُطَبِّعُ مشاعر الخوف والغضب واليأس ليحوّلها تكييفا إلى دافع للعطاء ، في تكييف منتج و مقصود . برامج التعلم الاجتماعي العاطفي الفريدة ، والتي تنفذها وزارة التربية بالشراكة مع مركز إبداع المعلم تُظهر كيف يصبح التكيّف العاطفي منهجاً عملياً: عشرات المبادرات المدرسية استهدفت أكثر من ألف طالب وجاوزت المئة المعلم ، ركزت على إدارة طيف العواطف المشبعة بالتحولات السياسية الصادمة ، وبناء المرونة النفسية في وجه هذا الواقع . هذه المبادرات لم تكن تدريبات تقنية مفصولة عن الواقع ، بل كانت تمارين وجودية في المواظبة على تدفق الإنسانية وسط اللا إنسانية.

فلسفة التكيّف العاطفي تقوم على ثنائية الرفض والقبول: رفض للتطبيع السياسي مع المحتل الذي يعمل على طمس هوية المعلم ، وقبول للواقع العاطفي الصعب كموضوع للتعامل لا للهزيمة. المعلمون في غزة الذين ينشئون فصولاً في الخيام الحارة ويستخدمون منصات افتراضية رغم انقطاع الكهرباء ، يمارسون “التكيّف الإيجابي” الذي تحدثت عنه كاسيل في مهارات الإدارة الذاتية والوعي الاجتماعي ، لكنهم يرفضون تكييف العلاقة مع الظلم. إنهم يُكيّفون عواطفهم مع الألم دون أن يُطَبِّعوا ضمائرهم مع الظلم. وهذا ما يحصل في جنين وطولكرم في الضفة الغربية.

التحدي الأكبر لهذا التكيّف العاطفي هو الحفاظ على الهوية والذات وسط التهجير: فالأقلية – كما يوضح بحث التعلم العاطفي الاجتماعي – تحتاج لمهارات تختلف عن النموذج الغربي، كبناء الهوية الجمعية والفخر الثقافي . عندما يُدمِّر الاحتلال 90% من مدارس غزة ويقتل حوالي الألف معلم ، يصبح التكيّف العاطفي وسيلة لنسيج الذاكرة الجمعية. مبادرات مثل تلك التي تنفذها المعلمة ن.ع لتشجيع الطلبة على التمسك بأحلامهم وأن لا يفلتوها ، مع أنها تتقاضى معاشا يؤهلها لشراء رطلين من الطماطم بدون إضافات أخرى ، وتسير ستة أيام أسبوعيا بواقع ساعتين يوميا مشيا على الأقدام للوصول إلى تنفيذ رسالتها في التعليم تحت حرّ الشمس التي تسقط على المساحات المكتظة بالإسمنت المفتت والملتهب ، لتصل إلى خيمة العجائب ، والتي في الفصل الواحد منها أكثر من ثمانين طفلا ، في كل مقعد خمس فراخ يفتحون أفواههم لاستقطاب الشغف ما أمكن ذلك. ذات المعلمة وفي مسيرها اليومي بجانب الخيام تسمع ضجيج تعنيف الأطفال من أولياء أمورهم نتيجة الاشتباك النفسي مع الواقع المزري الذي يمتد على شريط غزة ، ما يدفع المعلمة بوعيها لتكييف كل ذلك رغم قساوته ومرارته لمقاومة ثقافية عارمة ضد محو الهوية ، وشكلا في صياغة الأمل.

اليوم، بينما يُعلن 88% من مدارس غزة مدمرة ، يصبح التكيّف العاطفي للمعلمين فلسفة بقاء. إنه “التكيّف الحقيقي” والذي يعني اجتثاث الاحتلال من النفوس قبل الأرض . فالمعلم الذي يعلّم في الخيمة، والطلبة الذين يتعلمون بين الأنقاض، يمارسون أسمى أشكال المقاومة: صناعة الحياة حيث يزرع الموت ألغامه. هذه هي المعجزة التربوية التي تُؤسس لانتصار الذاكرة على النسيان، والحياة على الدمار.

  • – نسيم قبها – الإئتلاف التربوي الفلسطيني – باحث في الشأن التربوي

شاهد أيضاً

الإئتلاف التربوي الفلسطيني وجامعة القدس المفتوحة في إطار تفاهم رؤية تربوية في جنين

الإئتلاف التربوي الفلسطيني وجامعة القدس المفتوحة في إطار تفاهم رؤية تربوية في جنين

شفا – استضافت جامعه القدس مفتوحه – فرع جنين، لقاءً تشاورياً لممثلي الإئتلاف التربوي عبدالله …