
الحرام… عندما يبدأ في الصغر ويغرق في الأعماق ، بقلم: رانية مرجية
قراءة في نص المحلل النفسي والسلوكي خالد بشارات
في نص المحلل النفسي والسلوكي الأستاذ خالد بشارات، نجد تحليلًا عميقًا لطبيعة السلوك البشري، وخصوصًا حول كيفية الانزلاق التدريجي نحو الانحرافات الأخلاقية. إن بشارات في قراءته النفسية لا يعرض فقط تطور الشخص من براءته إلى تورطه في الأفعال المحرمة، بل يركز على الآليات النفسية التي تؤدي إلى إدمان الحرام. وقد تناول في تحليله كيفية أن الأفعال التي تبدأ بشعور بالخوف والقلق، تتحول تدريجيًا إلى أفعال اعتيادية، ثم تصبح جزءًا من هوية الشخص. إن هذا التدرج في السلوك يمكن أن يُفهم من خلال النظرية السلوكية التي ترى أن التكرار و التعزيز الإيجابي لهذا السلوك يؤديان إلى التعود عليه، ليصبح جزءًا من النمط السلوكي للشخص.
كما أن بشارات يُدقق في أن الحرام لا يحدث فجأة، بل هو عملية تدريجية تعتمد على الاستجابة البيئية، حيث يبدأ الإنسان بخوف من المجهول، لكنه يجد مكافأة نفسية في الاستمرار به. هذه المكافأة النفسية تخلق تعلقًا بالسلوك المحرم، ويبدأ الشخص في الاعتياد عليه حتى يتسلل إلى عمق الوجدان.
الحرام… كيف يبدأ وينتهي؟
في بداية كل شيء محرم، هناك لحظة الخوف والقلق الذي يرافق الاقتراب منه. يظل الحرام في أوله صعبًا، وكأن النفس تعارضه بشدة، غير قادرة على استيعاب ما سيترتب عليه. يبدأ كفعل مرفوض، محاصر بالحذر، يكتنفه الخوف من العواقب الاجتماعية والضميرية. لكن الحرام، مثل أي عادة مدمرة، لا يستمر في معركته الطويلة ضد الوعي. إذ مع مرور الوقت، يبدأ التعود، ويصبح هذا الفعل في النهاية أمرًا مألوفًا، بلا أي شعور بالخجل أو الندم. وكأن الخوف الذي يرافقه في البداية قد تم تهشيمه في مرونة نفسية، حتى أصبح جزءًا لا يتجزأ من الروتين اليومي.
“أصعب الحرام يكون في أوله صعبًا جدًا، والخوف من الاقتراب منه، ثم يسهل، ويعتاد عليه”.
هكذا يبدأ الحرام، شيئًا فشيئًا، ليصبح ألفته أكثر من رفضه. هذا الانقلاب النفسي، حيث تبدأ الأفعال المحرمة بالتسلل إلى حياتنا اليومية دون مقاومة، يجعل من الخوف شيئًا عابرًا. ومع كل مرة نكرر فيها الفعل المحرم، يتحول الذنب إلى اعتياد، ويصبح هذا الفعل جزءًا من شخصيتنا، يُمارس بلا وجل أو مقاومة.
في هذه المرحلة، يختفي الخوف، وتبدأ الراحة النفسية في تحقيق موازنة مع الفعل. هكذا تصبح الأمور المرفوضة طبيعية في نظر مرتكبها، يتبعها تفكير تلقائي يبرر هذا الفعل ويلغي أي حس داخلي بالذنب. أداة الدفاع الوحيدة التي كان يمتلكها الفرد ضد الحرام – وهي الوعي الأخلاقي – تبدأ بالتآكل، حتى تصبح الممارسات المحرمة جزءًا من شخصيته، لا يمكن الفكاك منها.
“ثم يطبع على القلب، ثم يبدأ صاحبه بالبحث عن حرام آخر، ويجدد بالحرام، ويدخل بدهاليزه من كل الأبواب”.
مع تكرار الفعل المحرم، يصبح القلب معتادًا على هذا الشعور، وتستسلم الروح تدريجيًا للانزلاق في مسار الانحراف. هذا التكرار لا يُوقف عند حد معين، بل يصبح الشخص في حالة بحث دائم عن تجاوزات جديدة. هو الطريق الذي لا ينتهي، حيث يصبح الحرام في نظر مرتكبه أداة تجديد وتنوع، للبحث عن اللحظات المحظورة التي تزيد من الرغبة في التمرد على القيود الاجتماعية.
وفي هذه المرحلة، يتحول الشخص إلى خبير في الحرام، يسعى لإيجاد طرق جديدة للانغماس في رذائله، يتقن أفعالًا كانت في البداية شديدة الغرابة، حتى يصبح من المعتاد أن يخلع على نفسه عباءة الرذيلة، ويعيش في عالمه المظلم، بعيدًا عن القيم الأخلاقية. وهكذا، يجد الفرد نفسه يغرق في دهاليز مستنقعات الرذيلة، غير قادر على التراجع أو العودة إلى القيم التي كانت تحكم سلوكه سابقًا.
“هكذا يبدأ الحرام، ويبدأ الانحراف، ثم يصبح مدربًا للحرام، إلى أن يصل إلى قاع مستنقعات الرذيلة”.
إن التدرج الذي يبدأ من الخوف إلى الاعتياد، ثم إلى البحث المستمر عن المزيد من الانحرافات، هو تحول تدريجي يبدأ في الخفاء ليصل إلى مرحلة الانسلاخ الكامل عن القيم الإنسانية والأخلاقية. في النهاية، يصبح الشخص أسيرًا لإدمان الحرام، يواصل السقوط في بئر الرذيلة دون أن يدرك النهاية التي قد تصيبه.
إن النص لا يُظهر فقط كيف يبدأ الحرام كفعل صغير، ولكنه يوضح كيف أن الحرام يمكن أن يتحول إلى إدمان أخلاقي يستهلك الإنسان تدريجيًا. إنه لا يتوقف عند مرحلة واحدة من الانحراف، بل يُغذي ذاته ويخلق حلقات من التكرار التي تصبح أكثر تشددًا، حتى يصبح الشخص في النهاية أعمى عن الحق و العدل.
الحرام لا يقتصر على تصرفات فردية، بل هو عملية اجتماعية أيضًا. كيف يمكن أن يكون المجتمع مسؤولًا عن توفير البيئة التي تغذي هذه التناقضات؟ كيف يساهم الظروف الاجتماعية في تحول الأفراد إلى مدمني حرام؟ إن الفقر النفسي والعاطفي، والمشاعر المستمرة بالنبذ، قد تكون دافعًا قويًا للانجراف نحو التجاوزات الأخلاقية.
في النهاية، يبقى السؤال الأهم: كيف يمكننا أن نعيد الوعي الأخلاقي إلى الأفراد قبل أن يتحول الحرام إلى جزء من هويتهم؟ هل يمكننا بالفعل أن نوقف هذا الانزلاق الأخلاقي قبل أن يصل إلى النهاية المأساوية؟