6:46 مساءً / 1 أغسطس، 2025
آخر الاخبار

شاهدة قبر من رخام الكلمات: كتابة على حافة الوجع والبعث ، بقلم: رانية مرجية

شاهدة قبر من رخام الكلمات: كتابة على حافة الوجع والبعث ، بقلم: رانية مرجية


في ديوانه الفريد “شاهدة قبر من رخام الكلمات”، لا يكتب يحيى السماوي عن الحزن، بل يكتب بالحزن، يعجنه بالحروف ويطحنه على حجر الروح. هذا ليس رثاءً كلاسيكيًا، ولا تأمّلًا عابرًا في الفقد، بل هو ميثاق حبّ موشوم بدم القلب، ممتد بين أمٍّ راقدة في ثرى الغياب وابنٍ يتسكع في خرائط التيه والمنفى، يطلب خلاصًا مستحيلًا من لعنة الحياة بعد الأم.


يبدو الديوان أشبه بـ”أنين وجودي” يندفع من صميم كائنٍ مشروخ، يراوده الموت كما تراوده الحياة، في معركة دائمة بين الظلّ والنور. الأم في هذا النص ليست مجرّد شخص، بل كيان كوني، رمز لكل ما هو طاهر، مقدّس، أبدي. يقول الشاعر:
“كُنتُ حيًّا محكومًا بالموت… بعد فراقها صرتُ ميتًا محكومًا بالحياة”


وهنا تتجلى أكبر مفارقات الديوان: الحياة كعقوبة بعد رحيل الأم، والموت كنعمةٍ مؤجلة.


من الناحية الوجدانية، يكتب السماوي بجسدٍ مفتوح، يعرّي ألمه بلا مواربة، يبكي ولا يخجل، يسقط في الشوارع ولا يطلب من أحد أن يرفعه. البكاء هنا ليس ضعفًا بل صلاة، هو شكل من أشكال الإيمان، والعين – كما يظهر في نصوصه – ليست أداة للرؤية بل نافذة للحزن.


أما من الناحية الجمالية، فيتحول الشعر في هذا الديوان إلى فنون جنائزية. الكلمات ليست مجرد أدوات لغوية، بل “رخام” يُنحت عليه الحنين واللوم والرجاء. الصورة الشعرية في الديوان ليست زخرفًا بل هي عصب المعنى، مثلًا:
“دفء أمومتها وليس حطب الموقد… أذاب جليد الوحشة في شتاءات عمري”


كل مفردة هنا تلتمع كدمعةٍ على خدّ اللغة. لا ترف زائف ولا تجميل بلاغي، بل بلاغة الحقيقة المُجرّدة.


ومن الزاوية الفلسفية، يتناول السماوي أسئلة وجودية بعمق مؤلم: من نكون دون أمّهاتنا؟ ما جدوى الشعر والسياسة والدين إن لم تُقرّبنا من أرواح أحبّائنا؟ هل الحريّة تُستعاد من بين ركام الاغتراب، أم تُدفن تحت تراب الوطن المسروق؟
وفي تساؤله:


“أما من سلالم غير الموت للصعود إلى الملكوت؟”


نلمس ذلك القلق الأنطولوجي النبيل، الذي يحوّل الفقد من تجربة شخصية إلى سؤال كوني.
الديوان أيضًا شديد الالتصاق بقضايا الإنسان العربي، إذ لا تنفصل لوعة الفقد الشخصي عن الكارثة الجمعية. أمه الراحلة تتراءى في وجه العراق، والوطن يُختزل في كفّها المعروقة، وفي عباءتها السوداء التي يصوغ منها رايةً لوطنٍ يُذبح كل يوم. ينقلب الرثاء إلى ثورة، والقصيدة إلى وثيقة احتجاج:


“أطلقوا سراحي من قبضة الخرتيت، واعتقلوا الوطن… ثم أعطوني قلماً لأكتب عن الحرية!”


في هذا المزج بين الخاص والعام، الوجودي والسياسي، العاطفي والفكري، تتجلى عبقرية السماوي، الشاعر الذي لا ينحني إلا ليقبّل تراب أمه، ولا يصرخ إلا في وجه الطغاة.


“شاهدة قبر من رخام الكلمات” ليست مجرد قصائد، بل هي “مقبرة نبيلة”، نحجّ إليها لا لنرثي الأمهات فحسب، بل لنرثي الإنسان في زمن يُفتّته الحنين وتفتك به الغربة.


هذا ديوان لا يُقرأ بل يُعاش، لا يُفسّر بل يُبكى، لا يُنقد بل يُحتضن.
إنه عمل شعري نادر في صدقه، راسخ في وجعه، وعميق في حنانه الثوريّ.

شاهد أيضاً

ما حقيقة المكمل “السحري” الذي يعزز الجمال والصحة؟

شفا – شهد عالم التغذية والعناية الشخصية طفرة غير مسبوقة في الاهتمام بالطحالب البحرية، خاصة …