11:51 صباحًا / 21 يوليو، 2025
آخر الاخبار

عبورٌ في الحلم إلى غزة القديمة ، (لذكرى الرفيق الشاعر سليم النفّار) بقلم : محمد علوش

عبورٌ في الحلم إلى غزة القديمة ، (لذكرى الرفيق الشاعر سليم النفّار) بقلم : محمد علوش

عبورٌ في الحلم إلى غزة القديمة ، (لذكرى الرفيق الشاعر سليم النفّار) بقلم : محمد علوش

في تلك الليلة الصيفية، لم أُغمض عيني بحثاً عن النوم، بل استسلمتُ له كما يستسلم المُحب بين ذراعي الذكرى، وفجأة، وبدون مقدّمات، وجدتني أمشي في أحد أزقة مدينة غزة، قبل أن تشتعل الأرض تحت أقدام أهلها وتتناثر الأرواح في فضائها.


لم يكن هذا حلماً عادياً، بل كان يقيناً مؤقتاً بأنّ للروح مفاتيحَ تعجزُ عن امتلاكها الحدود والأسلاك.


كنت أمشي في شارع عمر المختار، هناك حيث تختلط خطوات الناس برائحة الخبز الطازج وصوت الباعة، كأنّ المدينة كلّها تردد: نحن هنا.


أضواء خفيفة تلمع من نوافذ المكتبات، وواجهة مطعم “الميناء” تتوهج بالزوار الذين يتقاسمون السمك المشوي والضحك، كأنهم يحتفلون بالحياة في كل لقمة.


مررتُ بالسوق القديم، حيث العطارون ما زالوا يبيعون الزعتر والكمون، ووجوه النساء الحاملات لأكياس الفواكه والخضار تنضح بالحياة، رغم كل شيء، طفلة تضحك وهي تلاحق حمامة بيضاء، وشابٌ يعزف على عود مهترئ أغنيةً حزينة، فتتوقف الحياة للحظة كي تصغي.


ثم وجدتني على شاطئ غزة، آه، شاطئها الذي يشبه حضناً مفتوحاً للغائبين، جلست عند الصخور، والنسيم الملحّي يداعب وجهي، صيّادون ينزلون شباكهم في البحر، وبعضهم يعود وفي عينيه شغف القادمين من الأسطورة، في تلك اللحظة، شعرتُ بأنّ غزة لم تخلق فقط للسكن، بل لتسكن القلب.


في مقهى “البحر”، هناك حيث اعتاد الكتّاب والمثقفون اللقاء، كانت الطاولة تمتلئ بأحاديث الحبر والقهوة، رأيت وجوهاً أعرفها ولا أعرفها، بينهم الراحلون والحالمون، الذين ما زالوا يؤمنون بالكلمة كقارب نجاة، التقيتُ هناك الشاعر خالد جمعة وهو يقرأ قصيدة عن “الورد في زمن القصف”، وعلى الطاولة المقابلة كانت عبير الرملاوي تكتب شيئاً يشبه الوجع بلغة ناعمة.


وفجأة، دنا مني ظلٌ كثيف، فيه من النور ما يبدّد العتمة، وكان هو.. سليم النفّار.


اقترب بهدوئه الذي يشبه البحر في يومه الصافي، جلس بجانبي، وابتسم، قلت له: سليم، أهذا ممكن؟ أن نلتقي في غزة هكذا؟


فأجاب بصوته العميق: في غزة، كل شيء ممكن.. حتى الحلم.

كان يحمل دفتراً صغيراً، ملوّناً بملح البحر وعرق الفكرة، سألته عن القصيدة التي لم يُكملها، فقال وهو ينظر إلى الأفق: القصيدة لم تكتمل لأنّ الموت استعجلني، لكن غزة تكتبها كلّ يوم بدمها وابتسامتها.


ثم أضاف: أنا لم أغادر، أنا في جدران البيوت، في صوت الأمّ وهي توقظ أبناءها، في أغنية الصباح على راديو قديم، في ذاكرة الشهداء حين يعودون في الليل ليطمئنوا أنّ الوطن لم يُصب بعد بالخذلان.


مشينا سوياً على الرصيف الحجري، واستوقفه طفل صغير يبيع البسكويت، ابتاع منه، وربت على كتفه، قلت له: أتعرفه؟
قال: كل أطفال غزة أعرفهم، هم الجذر الذي لا يُرى في هذه الأرض، لكنّه يصنع الثمر.


ثمّ عاد إلى ظلّه.. كأنّه جاء ليطمئن أن الشعر لا يزال بخير في غزة، وأن البحر ما زال يكتب مع كل موجة بيتاً جديداً.
عدت أدراجي في الحلم، ماراً بمكتبة الشروق، حيث يتقافز الأطفال على رفوف كتب نجيب محفوظ وغسان كنفاني، يقرؤون ويضحكون، كأن القراءة نوعٌ من المقاومة، ورأيت رساماً يرسم لوحة لجنازة شهيد، وأحد المارة يقول له: اجعلها مليئة بالنور، لا نريد المزيد من العتمة.


كنت أود البقاء، كنت أود أن أقول لغزة شيئاً يشبه الامتنان، لكن الحلم أخذ بالذبول، وكأنّ الفجر قد انزلق من بين أصابع الليل.


استيقظتُ، وعيناي مغرورقتان بما لا يُقال.


غزة، التي زرْتُها في الحلم، لا تزال تسكنني، غزة، قبل الحرب، كانت تغني، وغزة، في الحرب، ما زالت تُنشد الحياة.
أما سليم، فبقي في مكانه، على شاطئ الحلم، يكتب قصيدته الناقصة.. ونحن نكملها.

شاهد أيضاً

ليس خيالاً علمياً... الآن يمكنك التحدث مع الأشجار عبر الذكاء الاصطناعي

ليس خيالاً علمياً… الآن يمكنك التحدث مع الأشجار عبر الذكاء الاصطناعي

شفا – أمام تحديات المناخ والتوسع الحضري، يبرز ابتكار فريد يمزج بين التكنولوجيا والطبيعة. إنه …