
المساعدات الإنسانية بين القانون الدولي وممارسات الاحتلال غزة نموذجًا.. بقلم د. وسيم وني
في مشهد يجسد عمق المأساة التي يعانيها شعبنا الفلسطيني في قطاع غزة، لم تأتِ الكارثة فقط من السماء، بل امتدت إلى الأرض، حيث تحوّلت المساعدات الإنسانية إلى مصائد للموت ، فقد نشرت صحيفة هآرتس الإسرائيلية شهادات صادمة لجنود الاحتلال، أقرّوا خلالها بتنفيذ أوامر مباشرة بإطلاق النار على المدنيين الفلسطينيين أثناء انتظارهم للحصول على الغذاء في شمال القطاع.
تُشكّل هذه الشهادات المروعة، والتي وُصفت بأنها “إدانة ذاتية غير مسبوقة”، تطورًا بالغ الأهمية والخطورة، ليس فقط على المستوى الإنساني، بل على المستوى السياسي والقانوني أيضًا، إذ لم تعد الصورة قابلة للتأويل أو الغموض نحن الآن أمام سياسة مكتملة الأركان، تستخدم التجويع كوسيلة حرب، وتحوّل نقاط الإغاثة إلى ساحات إعدام جماعي بأبشع صور الإجرام على مر العصور.
“أُمرنا بإطلاق النار”… عندما يصبح الجوع هدفًا عسكريًا”
أُمرنا بإطلاق النار على كل من يقترب من الشاحنات”، هذه العبارة التي وردت على لسان أحد الجنود لا تحتمل اللبس فيها فهي تشكل اعتراف علني بالمجزرة وفق ما نقلته الصحيفة، لم يكن إطلاق النار ردًا على خطر، بل تنفيذًا لتوجيهات عسكرية مسبقة، ما يكشف أن ما جرى لم يكن “تجاوزًا فرديًا”، بل سلوكًا مؤسسيًا ينبع من رأس الهرم العسكري الاسرائيلي الذي يمارس الإبادة الجماعية في غزة .
المدنيون الجوعى الذين أنهكتهم آلة القتل اندفعوا صوب شاحنات الإغاثة بحثًا عن كسرة خبز وُوجهوا بالرصاص الحي والرشاشات الثقيلة وقذائف الهاون ولم تفرق آلة القتل بين كبير أو صغير وحتى بين رجل أوإمرأة ، هذه الوقائع إذا ما تمت مقارنتها بالمعايير القانونية الدولية، تصنّف دون تردد على أنها جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية تُمارس ضد شعبنا الفلسطيني الأعزل.
المنظور القانوني: الإدانة واضحة
وفق القانون الدولي:
⦁ يُعد القتل العمد للمدنيين جريمة حرب بموجب المادة (8) من نظام روما الأساسي.
⦁ تعتبر اتفاقية جنيف الرابعة في مادتها (147) أن القتل المتعمد انتهاك جسيم يستوجب الملاحقة.
⦁ كما تحظر المادة (54) من البروتوكول الإضافي الأول استخدام التجويع كسلاح.
كل ما نراه اليوم في غزة هو تجسيد لهذه الجرائم مجتمعة، فالمساعدات، التي من المفترض أن تكون طوق نجاة لأبناء شعبنا الفلسطيني، أصبحت تستخدم كشرك قاتل، وتحوّل المدني الجائع إلى “هدف مشروع” في عُرف وعقيدة جيش الاحتلال.
“غزة خارج القانون”: اعتراف عنصري بنظام فصل دموي
إحدى الشهادات التي نشرتها الصحيفة نُقلت عن جندي يقول: “غزة مكان بقواعد مختلفة، لا تطبّق فيها قوانين الحرب”. هذا التصريح لا يمكن عزله عن السياق العام لعقيدة وممارسات الاحتلال، الذي يُمارس فصلًا عنصريًا ممنهجًا، ويُجرد شعبنا الفلسطيني من أي حماية قانونية، في خرق فاضح للمادة (7) من نظام روما الأساسي.
كما أن وصف المدنيين بأنهم “قوة مهاجمة” يُذكّر بممارسات مرعبة من تاريخ الإبادة الجماعية في البوسنة ورواندا، حيث كان الضحايا يُجرّدون من إنسانيتهم أولًا، ثم يُستباح دمهم باسم “الردع” و”الأمن”.
غياب التناسب وتعميم القتل
تؤكد الشهادات استخدام أسلحة ثقيلة ضد المدنيين المتجمهرين، في انتهاك واضح لمبدأ التناسب الذي يشكّل حجر الزاوية في القانون الدولي الإنساني. لا يمكن لعاقل أن يقبل بأن إطلاق النار العشوائي على الجوعى يمكن تبريره تحت أي مسمى، وهو ما يجعل هذه الوقائع جرائم لا تسقط بالتقادم.
من الإفلات إلى المطالبة بالمحاسبة
الخطير في هذه الاعترافات، كما نشرت الصحيفة، أن الجنود لم يواجهوا أي مساءلة داخلية، ما يعكس موافقة ضمنية وربما دعمًا علنيًا من قياداتهم ، هذه الثقافة المتجذرة في المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، تشكّل بيئة خصبة لاستمرار الجرائم، في ظل صمت دولي يُعبّرعن انهيار أخلاقي وسياسي لنظام العدالة الدولي وخاصة عندما يتعلق الأمر بشعبنا الفلسطيني.
دعوة مفتوحة للمحكمة الجنائية الدولية
أمام هذه الأدلة الصريحة، لم يعد هناك مجال للتأجيل أو التردد فالمطلوب اليوم من المحكمة الجنائية الدولية:
⦁ فتح تحقيق فوري وشامل استنادًا إلى الشهادات المنشورة.
⦁ إصدار مذكرات توقيف دولية بحق المسؤولين عن السياسات العسكرية في غزة.
⦁ تفعيل الولاية القضائية العالمية في الدول التي تتيح ذلك.
⦁ ورفض ازدواجية المعايير في التعامل مع جرائم الحرب.
إن عدم محاسبة الجناة في غزة لا يعني فقط تواطؤًا دوليًا، بل إنه يشكّل تهديدًا وجوديًا لفكرة العدالة كما عرفناها بعد الحرب العالمية الثانية.
حين يتحوّل الخبز إلى هدف عسكري
في غزة اليوم، تُسلّح إسرائيل الطعام، وتُجرّم الحياة، وإن لم يتحرك العالم الآن، فلن تكون غزة آخر الأماكن التي تتحوّل فيها المساعدات إلى مقابر مفتوحة.
وأختتم مادتي بأن ما ورد في الشهادات الصادرة عن جنود من جيش الاحتلال لا يُعد مجرد روايات شخصية أو سلوكيات معزولة، بل يمثل اعترافًا موثقًا بسلوك ممنهج ينطوي على انتهاكات جسيمة للقانون الدولي الإنساني ، هذه الأفعال من استهداف المدنيين العزّل خلال تسلّم المساعدات، إلى استخدام القوة المفرطة، إلى سياسات التجويع الممنهج تشكّل عناصر مكتملة الأركان لجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية بموجب نظام روما الأساسي واتفاقيات جنيف.
أمام هذا الواقع، لا يجوز أن يبقى المجتمع الدولي في موقع المتفرج. فالصمت لا يبرر فقط استمرار الانتهاكات، بل يمنحها شرعية ضمنية، وعلى المحكمة الجنائية الدولية، ومعها مؤسسات العدالة الدولية، أن تمارس اختصاصها دون تردد، وأن تعيد الاعتبار لمبدأ عدم الإفلات من العقاب، الذي يُعد حجر الزاوية في النظام القانوني الدولي.
ومن هذا المنبر نناشد المحكمة الجنائية الدولية، ومجلس حقوق الإنسان، وكافة الهيئات القضائية المختصة، بضرورة فتح تحقيق دولي مستقل وعاجل في هذه الجرائم الموثقة، واتخاذ ما يلزم من إجراءات لمساءلة المسؤولين عنها سواء من أصدروا الأوامر أو من نفذوها وفقًا لأحكام القانون الدولي.
كما وندعو الدول الأعضاء في نظام روما الأساسي إلى تفعيل مبدأ الولاية القضائية العالمية، وعدم التذرع بالاعتبارات السياسية على حساب العدالة الإنسانية.
إن غزة، اليوم، لا تطالب فقط بالنجدة الإنسانية، بل بالمحاسبة القانونية على الإبادة الجماعية بحق شعبنا الفلسطيني فالتاريخ لا يُكتَب بالبيانات، بل بالأحكام القضائية العادلة التي تُنصف الضحايا وتُرسي معايير الردع وتوقف جرائم الاحتلال.
- – د. وسيم وني – عضو نقابة الصحفيين الفلسطينيين .