
الطفولة تحت الاحتلال: ماذا يعني أن تكبر على أصوات الجرافات؟ بقلم: د. عمر السلخي
“بابا… الجرافة رجعت! هل راحوا يهدموا كمان اليوم؟”
بهذا السؤال البريء والمفجع استقبل الطفل احمد صباحه في بلدة بروقين في محافظة سلفيت، بعد أن استفاق مذعورًا على صوت مجنزرة إسرائيلية تقضم الأرض وتقترب من بيت جده.
الطفولة المسروقة في الجغرافيا الممنوعة
في سائر بقاع الأرض، تُبنى ذاكرة الطفولة على أصوات الألعاب والضحكات والقصص قبل النوم، إلا في فلسطين – وبالأخص في المناطق المصنفة (ج) – فإن ذاكرة الطفولة مشبّعة بأصوات الجرافات، وصفارات الإنذار، وأوامر الجنود، وارهاب المستوطنين والحقائب المدرسية التي لا تصل دائماً إلى المدرسة.
يتربى الطفل الفلسطيني في بيئة تمزج بين الحصار والخوف والتحدي، حيث يتحوّل اللعب إلى مخاطرة، والذهاب إلى المدرسة إلى مغامرة محفوفة بالخطر، والنوم إلى قلق دائم من مداهمة ليلية أو هدم فجائي.
التعليم خلف الجدار
في محافظة سلفيت كمان معظم بلدات وقرى فلسطين، يعاني مئات الأطفال من إغلاق الطرق وتقطيع أوصال البلدات، ما يجعل وصولهم إلى المدارس رحلة يومية شاقة ،المدارس المهددة بالهدم، ونقاط التفتيش العسكرية، والطرق الالتفافية المخصصة للمستوطنين، كلها تعرقل أبسط حقوق الطفولة: التعليم.
كيف لطفل أن يحفظ دروسه ويصغي إلى معلمته، بينما نافذة الصف تطل على مستوطنة تزداد توسعًا يومًا بعد يوم؟
كيف لابتسامة أن تُرسم على وجه صغير، والجدار الاستيطاني يُظلل باحاته المدرسية؟
الحرمان الصحي… حين يصبح العلاج حلمًا مؤجلًا
الطفولة تحت الاحتلال لا تُحرم من اللعب والتعليم فقط، بل تُحرم أيضًا من أبسط حقوقها الصحية ، ففي محافظة سلفيت، يواجه الأطفال صعوبات جمّة في الوصول إلى المستشفى الوحيد فيها او الى المراكز الصحية، خصوصًا مع الإغلاقات المتكررة للطرق وانتشار الحواجز العسكرية.
الطفل المريض قد يضطر لانتظار ساعات حتى يُسمح لسيارة الإسعاف بالمرور، أو يُجبر على قطع طريق ترابي أو جبل وعر على أقدام والده فقط للوصول إلى نقطة طبية. بعض الأطفال المصابين بأمراض مزمنة مثل السكري أو الربو لا يحصلون على أدويتهم بانتظام بسبب تعقيدات الاحتلال في إدخال الأدوية أو تنقل العائلات.
وفي الحالات الطارئة، يكون تأخر الإسعاف بسبب الحواجز العسكرية سببًا في مضاعفات صحية أو حتى فقدان الحياة، هكذا يصبح المرض تحت الاحتلال مضاعفًا: وجع الجسد وظلم السياسات.
أين حق الطفل في الرعاية الصحية؟ أين الحق في الطفولة الآمنة؟
في فلسطين، هذه الأسئلة لا تجد إجابة، بل تتحوّل إلى وجع يومي تعيشه العائلات، وصورة أخرى من صور الطفولة تحت الاحتلال.
اللعب في ظل المجنزرات
لا مساحات خضراء، لا حدائق عامة، لا ساحات آمنة، في بلدات مثل كفر الديك، دير بلوط، ياسوف، وبروقين، كفل حارس الأطفال محاصرون بين بيوت ضيقة، وجدران عالية، وخطر مستمر ، حتى الكرة التي تتدحرج خارج المنزل قد تصبح ذريعة لإطلاق نار أو اعتقال.
الاحتلال، في أحد وجوهه الأبشع، لا يسرق الأرض فقط، بل يسرق الطفولة ذاتها.
يجعل الطفل يُسرع بالكبر، فيعرف مبكرًا ماذا يعني “أمر هدم”، و”تصريح مرور”، و”مداهمة ليلية”.
يعرف أسماء الشهداء أكثر من أسماء الرسوم المتحركة، ويُميز صوت طائرة الاستطلاع أكثر من صوت العصافير.
المقاومة تبدأ من الطفل
رغم كل ذلك، يظل الطفل الفلسطيني صلبًا كزيتونة جده، ينمو تحت الركام، ويرسم علمه على دفاتره، ويكبر وهو يحلم أن يرفع اسم بلده في السماء.
في مشهد لا يُنسى، وقف طفل من بلدة كفرالديك على أنقاض منزله المهدوم، ورفع يده الصغيرة بالسلام.
قال: “راح نرجّع البيت، مش مشكلة.”
كأنه يقول: “أنتم تهدمون، ونحن نبني… أنتم تعتقلون، ونحن نحلم.”
ماذا يعني أن تكبر على أصوات الجرافات؟
يعني أن تنضج قبل أوانك، أن تتعلم القسوة في مدرسة الاحتلال، لكن دون أن تفقد إنسانيتك أو حلمك.
أن تكون طفلًا فلسطينيًا… يعني أن تكون مناضلا ومقاومًا بالفطرة، وشاهدًا حيًا على جريمة لا تسقط بالتقادم.