
هـل بـاتـت “شـريـعـة الـغـاب” هـي الـتـي تـحـكم الـعـلاقـات الـدولـيـة؟ بقلم : د. ماهر الشريف
نجح بنيامين نتنياهو في جر دونالد ترامب إلى المشاركة في الحرب التي شنتها إسرائيل على إيران، إذ أعلن الرئيس الأميركي، فجر يوم الأحد في 22 حزيران/يونيو الجاري، أن الجيش الأميركي “دمر بالكامل المنشآت الأساسية لتخصيب اليورانيوم” في فوردو ونطنز وأصفهان، وأن على إيران أن “تعقد السلام الآن، وإذا لم تفعل ذلك، فستكون الهجمات القادمة أكبر بكثير”، معتبراً أن على إيران “أن تقبل الآن بإنهاء الحرب مع إسرائيل”، وكتب على منصته على مواقع التواصل الاجتماعي: “إنها لحظة تاريخية للولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل والعالم، ويتوجب على إيران الآن أن تقبل بإنهاء هذه الحرب”.
وجاءت هذه الهجمات الأميركية بعد يومين من من تصريح دونالد ترامب بأنه سيتخذ قراره إزاء إيران “خلال أسبوعين”. أما في إسرائيل، فقد أشاد بنيامين نتنياهو بـ “العمل التاريخي” الذي قام به رئيس الولايات المتحدة، وقال: “أشكركم، وشعب إسرائيل يشكركم، لقد أظهرت أميركا أنه لا مثيل لها حقاً”، و”تمّ الوفاء بالوعد بتدمير برنامج إيران النووي؛ فالقوة أولاً، ثم السلام”.
في المقابل، أدانت طهران “الانتهاك الخطير للقانون الدولي”. واعتبر وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي في تغريدة على موقع “إكس” أن الهجمات الأميركية “مشينة وستكون لها عواقب أبدية”، متهماً واشنطن بـ “السلوك الفوضوي والإجرامي”، ومؤكداً أن بلاده تحتفظ بـ “جميع الخيارات للدفاع عن سيادتها”. بينما أكدت الوكالة الذرية الإيرانية أن البرنامج النووي المدني سيستمر “رغم المؤامرات الشريرة للأعداء”.
ما هي الخيارات التي يمكن أن تلجأ إليها إيران؟
يعتقد الخبراء الأميركيون الذين استجوبتهم صحيفة “نيويورك تايمز” أن قرار دونالد ترامب بضرب إيران يمثل بداية فترة من عدم الاستقرار في الشرق الأوسط، مع احتمال حدوث هجوم مضاد. “إنها مرحلة جديدة، قد تكون هناك مشكلات”، قال راي تاكيه، كبير الباحثين في شؤون الشرق الأوسط في “مجلس العلاقات الخارجية”. ووفقاً له، فمن المرجح أن يضطر القادة السياسيون الإيرانيون إلى الرد: “لقد تعرضوا للإذلال بجميع الطرق الممكنة، مما يجعلهم عرضة للانتقادات من شعبهم ومن الداخل، وبات عليهم في الأساس استعادة كبريائهم بطريقة أو بأخرى”. بينما انتقد أحد قادة الديمقراطيين في مجلس النواب قرار دونالد ترامب، متهماً إياه بدفع الولايات المتحدة نحو الحرب. وقال حكيم جيفريز في بيان: “لقد ضلل الرئيس ترامب البلاد بشأن نواياه، ولم يسعَ للحصول على تصريح من الكونغرس لاستخدام القوة العسكرية، ويخاطر بإقحام الأميركيين في حرب كارثية محتملة في الشرق الأوسط”.
بعد ساعات على الهجوم الأميركي أعلن بيان للحرس الثوري الإيراني أن “الحرب بدأت الآن”، بينما كتب وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي في تغريدة على موقع “إكس” أن الضربات الأميركية قضت على أي إمكانية للدبلوماسية مع الأميركيين أو الأوروبيين، وكتب: في الأسبوع الماضي، كنا في مفاوضات مع الولايات المتحدة عندما قررت إسرائيل إفشال الدبلوماسية؛ هذا الأسبوع، أجرينا محادثات مع ثلاث دول أوروبية [فرنسا وبريطانيا وألمانيا] قبل أن تقرر الولايات المتحدة إفشال هذا العملية”، وأضاف أن تعليقات البريطانيين والاتحاد الأوروبي حول “عودة إيران إلى طاولة المفاوضات أصبحت الآن غير قابلة للتحقيق”.
لا أحد يعرف حتى الآن كيف ستكون طبيعة الرد الإيراني على الهجمات الأميركية. هل ستواصل إيران قصف أهداف إسرائيلية وتتجنب المواجهة المباشرة مع الأميركيين؟ علماً أن قائد الجيش الإيراني أعلن أن إيران كانت ترد دوماً على الهجمات الأميركية التي استهدفتها. مهما يكن، يبدو أن إيران تملك خيارات كثيرة، من ضمنها، كما يرى بعض المراقبين، تشجيع حلفائها على استهداف القواعد الأميركية في المنطقة، وتشجيع الحوثيين في اليمن على استهدف السفن الأميركية في بحر العرب، كما يُشار إلى خيار آخر يثير قلقاً شديداً في المنطقة والعالم، ألا وهو قيام إيران بفرض حصار على مضيق هرمز، الذي يمر عبره حوالي 20٪ من النفط العالمي، وما لا يقل عن 20٪ من الغاز العالمي. وسيكون لإغلاق هذا الممر الاستراتيجي تداعيات كبيرة، ليس فقط على البلدان المنتجة والمصدرة للنفط والغاز في المنطقة، ولكن أيضاً على كبار المستوردين، مثل دول أوروبا، وقد يتسبب ذلك في ارتفاع كبير في أسعار النفط، التي قفزت بالفعل بنسبة 13٪ في الساعات التي أعقبت الهجوم الإسرائيلي على إيران.
هل تندفع إيران نحو إنتاج أسلحة نووية؟
لا يستبعد خبراء أن تنسحب إيران من معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية، وخصوصاً بعد الانتقادات الشديدة التي وجهتها إلى الوكالة الدولية للطاقة النووية ومديرها وبعد التوصية التي أقرها مجلس الشورى الإيراني بضرورة الانسحاب من هذه المعاهدة، بل يذهب بعض الخبراء إلى ترجيح أن تلجأ إيران، التي لعلها اتخذت احتياطات لحماية مخزونها من اليورانيوم المخصب تحسباً لضربات محتملة، إلى وضع هدف الحصول على أسلحة نووية على جدول أعمالها للسنوات القادمة. فرغم الضربات الشديدة التي وجهت إلى منشآتها النووية، وقيام إسرائيل باغتيال عدد من علمائها، فإن خبرتها في مجال تخصيب اليورانيوم باتت مكتسبة ولا يمكن تدميرها، كما صرّح بذلك المتحدث باسم المنظمة النووية الإيرانية، بهروز كمالوندي، لوكالة “تسنيم”، بقوله: “على الولايات المتحدة أن تعلم أن هذه الصناعة (النووية) متجذرة في بلدنا وأن جذورها لا يمكن تدميرها؛ بالطبع، لقد تعرضنا لأضرار، لكن هذه ليست المرة الأولى التي يتعرض فيها هذا القطاع لذلك”.
وفي هذا السياق، قال كينيث بولاك، نائب رئيس “معهد الشرق الأوسط” والمحلل السابق في وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية: “لن نعرف ما إذا كان الرهان [رهان ترامب] ناجحاً، إلا في حال عدم حصول النظام الإيراني، في غضون ثلاث إلى خمس سنوات، على الأسلحة النووية التي يملك الآن أسباباً وجيهة كي يحصل عليها”. ومن المعروف أن وكالة الاستخبارات الأميركية لم تخلص، خلافاً لمزاعم ترامب ونتنياهوـ إلى أن إيران كانت على وشك صنع قنبلة نووية. وبالنسبة لتريتا بارسي، نائب الرئيس التنفيذي لـ “معهد كوينسي للحكم الرشيد”، فإن قرار ترامب بقصف المنشآت النووية الإيرانية “يجعل من المرجح الآن أن تصبح إيران دولة حائزة على أسلحة نووية في غضون خمس إلى عشر سنوات”، وتضيف: “يجب أن نحذر من الخلط بين النجاح التكتيكي والنجاح الاستراتيجي…فالحرب في العراق كانت أيضاً ناجحة في الأسابيع الأولى، لكن إعلان الرئيس بوش عن ’إنجاز المهمة‘ لم يدم طويلاً”. أما جينيفر كافاناغ، مديرة التحليل العسكري في مؤسسة “أولويات الدفاع”، فقد قدّرت أن قرار ترامب بإنهاء جهوده الدبلوماسية بصورة مفاجئة “يجعل التوصل إلى اتفاق مع إيران على المدى المتوسط والطويل “أكثر صعوبة”، ذلك إن إيران “لم يعد لديها أي سبب للثقة في ترامب أو الاعتقاد بأن التوصل إلى تسوية سيخدم مصالح الجمهورية الإسلامية”.
وإذا ما اندفعت إيران نحو إنتاج أسلحة نووية، فإن دولاً أخرى في المنطقة ستحذو حذوها، ما يفتح الباب واسعاً أمام سباق تسلح نووي واسع، يجعل مشروع بنيامين نتنياهو ببزوغ فجر “شرق أوسط جديد” تتسيده إسرائيل، مجرد أضغاث أحلام .
هل لفظ النظام العالمي أنفاسه الأخيرة؟
يريد كلٌ من دونالد ترامب وبنيامين نتنياهو أن يفرضا السلام من خلال القوة. لكن القوة لا تفرض في الواقع “سلاماً” بل تفرض “استسلاماً”، وهذه “القوة” هي التي باتت تحكم، كما يبدو، العلاقات الدولية والنظام العالمي.
في 15 كانون الثاني/يناير 2025، خلال مثوله أمام مجلس الشيوخ لإقرار تعيينه في منصب وزير الخارجية، صرح ماركو روبيو بما يلي: “النظام العالمي الذي قام بعد الحرب ليس فقط عفا عليه الزمن: إنه الآن سلاح يستخدم ضدنا”، وأضاف: “مرة أخرى، نحن مدعوون إلى خلق عالم حر من الفوضى”. لكن النظام الذي أقيم في سنة 1945، في نهاية الحرب العالمية الثانية، شكلته إلى حد كبير الولايات المتحدة الأميركية، القوة المهيمنة في ذلك الوقت، في حين أن الفوضى العالمية هي التي تسببت بها، في المقام الأول، وخصوصاً بعد قيامها بغزو العراق في سنة 2003. والواقع، أن دونالد ترامب ليس رئيساً “انعزالياً”، إنه “إمبريالي”، إنه يريد أن يُحترم بفضل قوة الولايات المتحدة الأميركية، وهو “يريد أن يظل سيد العالم، والشريف الجديد في البلدة”، أو “الشريف الجديد للقرية العالمية”.
فحرب الإبادة التي تواصلها حكومة بنيامين نتنياهو على قطاع غزة، ثم الحرب التي شنتها على إيران، والتي شهدت مشاركة الولايات المتحدة الأميركية المباشرة فيها، أثبتا سيادة شكل من أشكال “شريعة الغاب” على العلاقات الدولية، بحيث تعلو القوة على القانون، وهو ما قد يكون له عواقب وخيمة على الاستقرار العالمي والتعاون الدولي. فوفقاً لـ أ. هيلير، الباحث الرئيسي في “المعهد الملكي للخدمات المتحدة” في لندن المختص بالشؤون الأمنية والعسكرية في العالم، فإن هذا التصعيد الكبير الحالي هو “نتيجة طبيعية” للإفلات من العقاب، ذلك “إن عدم تعرض إسرائيل لأي عواقب جراء انتهاكاتها المتكررة للقانون الدولي يرسل رسالة واضحة مفادها: إذا قررت المضي قدماً، فهي قادرة على ذلك”، وهي تعلم “أنه يمكنها الاعتماد على أقوى الأطراف في المجتمع الدولي لمنع القيام بأي شيء إزاءها – أو أسوأ من ذلك، لتشجيعها”. وإذا كانت النتيجة الأولى لهذا الإفلات من العقاب هي “المعاناة الهائلة التي يتكبدها السكان المدنيون، لا سيما في قطاع غزة”، فإن نتيجته الأخرى هي “التآكل المتسارع للنظام العالمي القائم على القواعد، التي اتفق عليها بعد الحرب العالمية الثانية، إذ يبدو أن من يمتلك القوة يمكنه انتهاك هذه القواعد، من دون أن يتعرض لأي عقاب”.
من جهته، يقدّر الأكاديمي براين بريفاتي، من جامعة كينغستون في لندن، أن النظام الدولي الذي أقيم بعد سنة 1945 يواجه “اضطراباً غير مسبوق، إذ إن الأسس التي قام عليها الاستقرار العالمي تتزعزع، ويبدو أن 2025 ستكون سنة فاصلة”، معتبراً أن الصراع المباشر بين إسرائيل وإيران هو “أكثر من مجرد صراع ثنائي”، إنه “مؤشر على تآكل المعايير الدولية”، ذلك إن الهجوم الإسرائيلي الواسع النطاق على إيران، “شُن من دون موافقة مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة”. وهو كشف “عن الهشاشة المتزايدة للمؤسسات الدولية، مثل الأمم المتحدة والمحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية، التي أصبحت مهمشة بصورة متزايدة”. ويتابع قائلاً: “”تتصرف الحكومة الإسرائيلية بدرجة من الإفلات من العقاب نادراً ما تُشاهد، في حين أن الإدارة الأميركية، تقوض بنشاط الآليات العالمية المصممة لضمان احترام القانون الدولي”، بحيث إن “الجمع بين دولة قوية تتصرف بحصانة تامة وقوة عظمى تعطل آليات المساءلة، يمثل نقطة تحول عالمية؛ إنه لحظة حرجة للغاية لدرجة أننا قد نضطر إلى إعادة النظر في معرفتنا بشان إدارة العلاقات الدولية وإدارة النزاعات، سواء بالنسبة للنضال الفلسطيني أو لنظام العدالة الدولية الذي بُني بعد الحرب العالمية الثانية”. فسياسة إسرائيل في قطاع غزة وهجومها على إيران يؤكدان للدول الأخرى أن “القانون لم يعد يقيّد السلطة، وأن المؤسسات يمكن التحايل عليها، وأن المبادئ الإنسانية يمكن استخدامها لأغراض سياسية”.
والمصيبة أن حلفاء الولايات المتحدة الغربيين، أو أتباعها بالأحرى، لا يفعلون شيئاً لمواجهة انتهاكاتها المستمرة للقانون الدولي، بل يتخذون مواقف متناغمة مع مواقفها، ذلك إن بلدان الاتحاد الأوروبي متفقون على شرعية الحرب الإسرائيلية على إيران، ولا يعرفون كيف يتعاملون مع حكومة بنيامين نتنياهو، “على حساب المخاطرة بالبقاء هامشيين دبلوماسياً”.
فقبل أسبوع واحد من شن الحرب على إيران، كان بنيامين نتنياهو يمر بمرحلة صعبة على الساحة الجيوسياسية، وذلك بعد أن فرضت بريطانيا عقوبات على اثنين من وزرائه، وكانت علاقاته مع قصر الإليزيه في أدنى مستوياتها، وكان الاتحاد الأوروبي يدرس احتمال إعادة النظر في اتفاق الشراكة مع إسرائيل، وكان من المرجح أن يكون المؤتمر الدولي حول حل الدولتين، الذي كان من المقرر أن يفتتح في نيويورك في 17 حزيران/يونيو الجاري برعاية فرنسا والمملكة العربية السعودية، تظاهرة دبلوماسية ضده، لكن رئيس الوزراء الإسرائيلي خرج من هذه الأزمة، بعد أن قام جيشه بمهاجمة إيران، وعادت القوى الأوروبية الرئيسية إلى لغتها التي كانت تستخدمها في فترة ما بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023: “إسرائيل لها الحق في الدفاع عن نفسها”، مع تراجع الوضع في قطاع غزة إلى الخلفية في اهتمام هذه القوى (9)، علماً أن العشرات من الغزيين والغزيات ما زالوا يُقتلون كل يوم في قطاع غزة على أيدي جنود الاحتلال منذ بداية الحرب الإسرائيلية على إيران، لا سيما في مراكز توزيع المساعدات التي تديرها “مؤسسة غزة الإنسانية” الأميركية، ذات التمويل الغامض. فالأشخاص المستهدفون هم “أشخاص عاديون وغير مسلحين” يذهبون “للحصول على الخبز والدقيق لأطفالهم”، كما قال محمد أبو عامر لوكالة “فرانس برس”، الذي كان حاضراً عندما قتلت القوات الإسرائيلية أكثر من 50 شخصاً بالقرب من مركز لتوزيع الطعام في خان يونس.