
في حضرة الطغيان ، بقلم : علاء عاشور
تضربُ بعصاها الغليظة،
تلوّح بها كما لو كانت الحقيقة،
تظنُّ أن الكلَّ قطيعٌ من خرافٍ مذعورة،
وأن الأرض وُلدت لتسجد تحت أقدامها.
لم تزل تتململ من زقزقة الحمائم،
تراها طعنةً في خاصرة الحقد،
وترتجفُ من بياض السلام،
كما يرتجفُ الليلُ من تباشير الفجر.
أرعبتها صواريخُ الفاتحين،
أولئك الذين أكلوا من الجوع وقاتلوا،
لم يعرفوا للراحة بابًا،
لكنهم آمنوا أن للمظلوم صوتًا
يعبرُ الحديد، ويتحدى جدار الصمت.
هي تكابر،
تهددُ البحرَ وأمواجَه،
كأنّ المدَّ جريمةٌ تستحقُّ العقاب،
وكأنّ زَبَدَ اليمِّ مؤامرةٌ كونية!
تملك القوة، نعم…
لكنها لا تحوز الإيمان،
ولا تعرفُ معنى أن يُولد الإنسان حُرًّا
حتى في لحظة موته.
قنبلةٌ، صاروخٌ، حجرٌ،
هو سلاحُ الفقير الذي لا يملكُ إلا كرامته،
يقاتلُ وحده في ظلِّ انكسار الجميع،
يرى وطنه في دمعة طفلٍ،
وفي غصّة أمٍّ تبحث عن ظلِّ جدار.
لن ينكسر،
ولن يمدّ يده ليرتشف ماءً دنسًا
من برك الوحوش المتعطشة للدم،
هو يعرفُ أن الحرية لا تُستعطى،
بل تُنتزعُ من أنياب الوحش.
لكن، لِمَ يتقاتلون؟
على سيادة الحظيرة؟
على فتاتِ العلفِ المسكوب من موائد العدو؟
أين هي أمة الضاد؟
نامت،
وغاصت في سباتٍ عميقٍ
كأنّ الأمرَ لا يعنيها…
وفيما الحالمون يتبادلون النكات،
يتقاسم الغرباءُ الكعكةَ،
يقطّعونها بهدوءٍ بارد
فوق أشلاء الأطفال
من الجسد المحمدي،
كأنّ الدم لا يوقظ أحدًا،
ولا صرخةَ الرضيع تُحرّكُ الحجر!
لم يعنيهم رجفُ الضعفاء،
ولا دمعةُ البسطاء الذين يقفون على حوافّ الأمل،
ينتظرون معجزةً من السماء،
أو صوتًا عربيًا واحدًا يتجاوز الضجيج ويكسر الصمت.
الكل العربي ممزق،
بلا وجهة، بلا راية جامعة،
تائهٌ بين ذاكرة أمجادٍ قديمة،
وصور حاضرٍ مشوّهٍ بالتبعية والهزيمة.
في قاهرة العروبة،
حيث كان يُنسج التاريخ بخيوط الثورة،
لا صوت يعلو،
ولا نبض في الشوارع.
كأن المدينة نُزعت منها الروح،
وأهلها ما زالوا يعتنقون قوانين القدماء،
الذين ظنوا أن الكون ثابتٌ لا يتغير،
وأن الجمود ضمانة البقاء.
لكن في بلادٍ ليست ببعيدة،
رغم اختلاف المزاج،
واختلاف اللسان واللهجة والخبز والماء،
نقف معهم،
نحمل الهمّ ذاته،
نشدّ على جراحهم بحبال العقل والإيمان،
نقتسم الأمل كما نقتسم الدعاء،
ونحفظ اسم القدس في صلواتنا،
كما نحفظ أسماء أمهاتنا.
نرجو نصر القائمين للصلاة،
في محراب الأقصى
الذي نسيه الكثيرون،
وغابت مآذنه عن خرائط القلب.
لم يعد قبلة البعض،
فالقبلة تغيّرت،
أصبحت بنوكًا وأسواقًا وناطحاتِ سحاب،
وأصبح المال ربهم،
والمتعة دينهم،
وتحوّل طريق الصواب إلى طريقٍ موحش
مقطوع الإشارات،
لا يمرُّ به أحد.
ومع كل ذلك،
نظل نؤمن أن في آخر النفق بصيص نور،
وأن في كل طفلٍ يرتجف على أنقاض منزله نبيٌّ قادم،
وأن الأرض التي بكت دمًا،
ستُثمر كرامة،
وأن المدينة التي خذلها القريب،
سيعود إليها البعيد طائعًا،
حين تناديه جراحها باسم الحق.
وهذا الجشع في بلاد العم سام،
يتبجح بالقوة،
كأنّه إلهٌ جديدٌ نزل من أبراج البورصة،
يرفع شعارات الحرية وهو يدهس أعناق الشعوب،
يتحدث عن حقوق الإنسان
ويُعدّ قنابلَ أكثر من كتبه،
يتفاخر بعضلاته،
وهو أخرق، بلا عقلٍ ولا بوصلة،
إلا مضاعفة الأموال
وتكديس الأرباح على جماجم الفقراء.
سليطُ اللسان،
يبصق على عروبتنا علنًا،
ويهين ديننا بلا تردد،
ولا نردُّ،
بل نزداد خنوعًا،
نرمي له التريليونات،
كما ترمي الضحية جسدها بين أنياب الوحش،
ثم نتساءل: لمَ إلتهمونا؟
كفى جبنًا،
كفى صمتًا مبللاً بالذل،
أما تعبنا من الدوران في فلك التبعية؟
أما آن أن نقطع هذا الحبل السُرّي
الذي يربطنا بذلّنا بإختيارنا؟
أم أن حالهم يقول:
نحن رواد أعمال،
نمتلك البزنس والبيزنس يربح،
ولو باع القدس في المزاد العلني!
نحن نرتفع في أبراج الخيانة،
ونرى العالم من فوق،
لكننا فقدنا الأرض،
وفقدنا الهمّة،
فلا نقارع عدواً،
ولا نكتب سطرًا في كتاب المجد،
بل نرقص ونمرح،
ونسكر على أنغام الانفصال عن القضية،
ولا نبالي بنعيق النوارس
فوق شواطئ المدن المدمرة،
في بلادٍ أبيدت
من وحش الإنكسار العربي.
لم نودّع الشهداء كما يليق بهم،
لم نحمل جراحهم إلا كعلامة ضعف،
لم نقتل الصبر إلا لنلبس قناع “البراغماتية”،
ونقول في بلاهة: “الواقعية تقتضي الاستسلام”.
لكن كفى،
كفى صمتًا
يا أمة المليار!
كفى وهناً يلبس ثوب الحكمة،
كفى كذبًا باسم المصلحة،
كفى استهتارًا بدماء الأنبياء فينا،
كفى رقصًا على إيقاع النكبة،
كفى ليلًا طويلًا بلا فجر.
هذه ليست نهاية الحكاية،
لكنها الصفحة التي إن لم تُقلب،
سنظل عالقين فيها،
نمضغ خيبتنا
ونسمّيها “سلامًا”.