
كيف يُعاد تشكيل الشرق الأوسط من بوابة العدوان على طهران؟ بقلم : د. خالد جاسر سليم
صراع الهيمنة على الإقليم:
في ظل التصعيد المتسارع بين إسرائيل وإيران، تبرز الحاجة إلى قراءة استراتيجية هادئة تتجاوز التهويل الإعلامي الذي يهيمن على جزء كبير من الخطاب العربي الرسمي، وتتخطى الانقسامات الطائفية التي تُضعف إمكان بناء موقف إقليمي مشترك. فالمواجهة الجارية لا يمكن اختزالها في تبادل محدود للضربات، بل هي في جوهرها صراع مفتوح على الهيمنة الإقليمية، ومحاولة حثيثة لإعادة تشكيل ميزان القوى في الشرق الأوسط على أسس تخدم المشروع الإسرائيلي وتعزز تفوقه المدعوم من الغرب.
من زاوية القوة الصلبة، تمتلك كل من إسرائيل وإيران منظومة معقدة من القدرات العسكرية والتكنولوجية والاستخباراتية، تجعل من أي مواجهة بينهما ساحة لصراع عالي الكثافة والمخاطر. إلا أن العدوان الإسرائيلي الأخير، الذي نُفذ بتواطؤ ودعم سياسي واستخباراتي غير مسبوق من الولايات المتحدة وحلفائها، حقق مكاسب ميدانية نوعية. فقد استهدفت الضربات مواقع ومنشآت استراتيجية، واغتالت شخصيات رفيعة في المجالين العسكري والعلمي، وزعم الاحتلال تدمير منظومات دفاع جوي وصاروخي، مما عبد الطريق لطيرانه للسيطرة على المجال الجوي الإيراني.
تفوق عسكري مؤقت أم نكسة جديدة:
ورغم أن هذه المكاسب موضع جدل، إلا أنها تُوظَّف في الخطاب الإسرائيلي كأدوات لاستعادة قوة الردع التي تضررت في السابع من أكتوبر على يد المقاومة الفلسطينية، ومحاولة لتكريس صورة التفوق العسكري واليد الإسرائيلية العليا في الوعيين الداخلي والإقليمي والدولي، تمامًا كما حدث عام 1967 عقب هزيمة الجيوش العربية في حرب الأيام الستة. هذا الإحساس بالتفوق يغذّي شهية المؤسسة الإسرائيلية، وخاصة التيار اليميني المتطرف والفاشي بقيادة نتنياهو، نحو توسيع نطاق الأهداف، سواء بضرب البرنامج النووي الإيراني أو بالمجاهرة بالدعوة لتغيير النظام في طهران، بما يحمله ذلك من تهديدات مباشرة لاستقرار وأمن المنطقة بأكملها.
ورغم حجم الضربات، جاء الرد الإيراني الأولي ليكسر نسبيًا نشوة “النجاح الإسرائيلي”، ويؤكد أن قواعد الاشتباك ليست حكرًا على طرف واحد. إلا أن التحدي الأكبر بالنسبة لإيران لا يتعلق بطبيعة الرد الصاروخي فقط ومواصلته وبشكل تصاعدي ونحو مراكز حساسة، بل بقدرتها على حماية منظومة القيادة والسيطرة والاتصال، والتي تُعد الركيزة الحاسمة لأي استمرارية في المواجهة. فأي اختلال في هذه المنظومة يعني الدخول في حالة من “العمى العملياتي” و”الشلل القتالي”، وهي من أخطر السيناريوهات في أي حرب، التي قد تحيل الساحة والأجواء الإيرانية كما هو الحال في سوريا المستباحة من الطيران الإسرائيلي.
شرعنة الغرب للعدوان وتغييب القانون الدولي:
وفي المقابل، تواصل إسرائيل الاستفادة من غطاء سياسي وإعلامي غربي واسع، يُبرر عدوانها تحت لافتة “الدفاع عن النفس”، رغم أنها هي من بادرت بالهجوم. وتتبنّى واشنطن والدول الغربية هذا الخطاب بوضوح، في محاولة لشرعنة التفوق الإسرائيلي وشيطنة أي رد إيراني، حتى وإن كان متوافقًا مع المادة (51) من ميثاق الأمم المتحدة، التي تمنح الدول حق الدفاع عن النفس في حال تعرضها لعدوان مسلح.
وفي ظل هذا الانحياز الفاضح، تتصاعد في الدوائر الاستراتيجية الغربية احتمالات تحوّل الدور الأميركي إلى التدخل العسكري المباشر، خصوصًا إذا فشلت هذه الجولة من العدوان في دفع إيران إلى طاولة المفاوضات بشروط أميركية وإسرائيلية. ويأتي هذا السيناريو ضمن مقاربة إدارة ترامب التي ترى في “السلام من موقع القوة” نهجًا لإدارة النزاعات، حتى وإن أدى ذلك إلى انفجار أوسع.
غير أن مثل هذا التدخل، إذا حدث، لن يكون بلا كلفة استراتيجية باهظة. فمن جهة، سيتعرض أمن الطاقة العالمي لتهديد مباشر، سواء عبر استهداف منشآت نفطية في الخليج، أو من خلال تعطيل الملاحة في مضيقي هرمز وباب المندب، حيث يُنقل ما يقرب من 30% من نفط الخليج عبر مضيق هرمز وحده. ومن جهة أخرى، ستصبح القواعد الأميركية في العراق وسوريا والخليج هدفًا محتملًا لإيران. ما يعني أن الانزلاق نحو مواجهة مباشرة قد يتجاوز التقديرات الأولية، ويعيد رسم موازين الردع والنفوذ في الإقليم بأسره. وفي هذا المشهد، لا تبدو روسيا – رغم علاقاتها الاستراتيجية مع إيران – في موقع القادر أو الراغب في كبح هذا المسار، ما يطرح علامات استفهام حقيقية حول مستقبل علاقتها مع أصدقائها بعدما خذلتهم جميعاً تقريباً، أو التزمت صمتًا انتقائيًا في لحظات مفصلية.
وفي الإطار الإقليمي، يُعدّ استمرار اتفاقات التطبيع رغم توسّع العدوان الإسرائيلي على غزة وجبهات أخرى، دليلاً على الأريحية التي يتحرك بها الكيان الاسرائيلي. هذه الاتفاقات لم تتأثر لا بحرب الإبادة ولا بالتصعيد، ما يعكس حالة من التعايش العربي الرسمي مع الاحتلال والعدوان، في ظل واقع سياسي مفكك وتطبيع اقتصادي وأمني منفصل عن أي التزام بالموقف الفلسطيني أو الأمن الوطني والقومي.
وانطلاقًا من هذا السياق، تمضي إسرائيل في محاولة فرض رؤيتها للنظام الإقليمي الجديد، مستفيدة من ضعف الجوار وتواطؤ بعضه. ومع انحسار التهديدات المباشرة، تتجه المؤسسة الإسرائيلية نحو تنفيذ استراتيجيتها طويلة المدى، التي تشمل ضم الأراضي، وتهجير الفلسطينيين، وتصفية قضيتهم سياسيًا وأمنيًا، في ظل بيئة إقليمية عاجزة وغرب استعماري غير مكترث.
فلسطين الخاسر الأكبر:
في خضم هذه التحولات، يبقى الشعب الفلسطيني الخاسر الأكبر من صعود إسرائيل كقوة إقليمية مهيمنة بلا منازع. فكل خطوة تُحرزها إسرائيل في فرض شروطها على الواقع الإقليمي تعني تقلّصًا لمساحات المقاومة والمناورة السياسية، وتراجعًا لفرص قيام مشروع عربي مستقل يسعى إلى تجاوز التبعية واستعادة السيادة. والأخطر من ذلك، أن هذا الصعود يعزز من حضور الخطاب اليميني الفاشي في اسرائيل التي انزاحت نحو اليمين، الذي يرى في الضم، والتهجير، والتطهير العرقي، المسار الوحيد لحسم الصراع مع الشعب الفلسطيني، بعيدًا عن أي حل سياسي أو اعتراف بالحقوق الوطنية المشروعة.
من هنا، فإن المصلحة الاستراتيجية للشعب الفلسطيني، ولكل القوى الحية في المنطقة والعالم، تقتضي أولاً عدم الوقوع في فخ الخلط بين التناقض الرئيسي مع العدو الإسرائيلي، والتناقضات الثانوية أو الفرعية التي قد تنشأ بين أطراف الإقليم. فإعادة ترتيب الأولويات على هذا الأساس أمر جوهري في ظل سعي إسرائيل لفرض واقع إقليمي جديد يخدم تفوقها الاستراتيجي. كما تقتضي هذه المصلحة التصدي لمحاولات احتكار القوة والنفوذ في المنطقة، ووقف الاندفاع نحو شرق أوسط يُعاد تشكيله وفق الرؤية الإسرائيلية. ذلك أن كل انتصار يحققه الكيان الإسرائيلي في هذه المواجهة لا يستهدف إيران فحسب، بل يعمّق من اختلال التوازن الإقليمي، ويقوّض قدرة شعوب المنطقة على الدفاع عن مصالحها، وصياغة مستقبلها بحرية واستقلال.
وفي هذا السياق، فإن على النخب الفلسطينية، وخاصة تلك المحسوبة على المؤسسات الرسمية، أن تتروى في مقاربة هذا الصراع، وتتجنب التهليل أو الوقوع في فخ المساواة بين المعتدي والمعتدى عليه، وأن تقرأ المشهد من زاوية المصلحة الوطنية الفلسطينية، لا من خلال حسابات آنية أو من عدسة التنافس مع حماس. فالوعي السياسي الرصين، في مثل هذه اللحظات، هو أول شروط الدفاع عن القضية، وعن حقنا في الحرية وتقرير المصير.