
اعترافات الهارب الأخير ، بقلم: د. وليد العريض
(1)
الهَارِبُ مِنْ نَفْسِهِ
سَأَهْرُبُ…
لَيْسَ مِنَ المَكَانِ
بَلْ مِنِّي.
سَأَخْلَعُ وَجْهِي كَمَا تُخْلَعُ الأَقْنِعَةُ
فِي مَسَارِحِ الكَذِبِ
وَأَمْضِي نَحْوَ ظِلٍّ
لَا يَعْرِفُ أَحَدًا.
سَأَتَّكِئُ عَلَى جِدَارٍ بَارِدٍ
وَأَسْتَمِعُ لِقَلْبِي
يَتَنَفَّسُ نَدَمًا.
فِي الحَانَاتِ لَا يَسْأَلُونَكَ مَنْ أَنْتَ
يَكْفِيهِمْ أَنْ تَرْفَعَ كَأْسَكَ
وَتَسْقُطَ الدُّمُوعُ عَلَى المَائِدَةِ
كَأَنَّهَا مَطَرُ غُفْرَانٍ.
أُحِبُّ ذَاكَ الضَّوْءَ الخَافِتَ
يُخْفِي عُيُوبَ الأَرْوَاحِ
وَيَكْشِفُ جَمَالَ التَّعَبِ.
كُلُّ مَنْ حَوْلِي زُهَّادٌ…
يَسْجُدُونَ لِسَاعَةِ نِسْيَانٍ
وَيَقُومُونَ عَلَى أَطْلَالِ قَصِيدٍ
لَمْ يُكْتَبْ.
وَأَنَا…
أُصَلِّي لِرَاحَتِي
وَأَشْرَبُ نُورِي مِنْ زُجَاجٍ
وَأَبْحَثُ عَنِّي
فِي كُلِّ كَأْسٍ فَارِغَةٍ.
سَأَهْرُبُ…
لَيْسَ هَرَبًا
بَلْ عَوْدَةً إِلَى صَمْتٍ
نَقِيٍّ كَالقَبْرِ
وَأَبْيَضَ كَالغُفْرَانِ.
(2)
الكَأْسُ الَّتِي شَرِبَتْنِي
لَمْ أَشْرَبِ الكَأْسَ
بَلْ هِيَ الَّتِي شَرِبَتْنِي.
دَارَتْ عَلَيَّ كَالدَّهْشَةِ
وَسَقَطَتْ نُقْطَةٌ مِنْ عَطَشِي
فِي عَيْنِهَا
فَاشْتَعَلَ المَكَانُ نَبْضًا.
لَمْ أَكُنْ سَكْرَانَا
كُنْتُ فِي حَالَةِ وُضُوحٍ مُطْلَقٍ
رَأَيْتُ الأَشْيَاءَ كَمَا هِيَ:
الضَّوْءَ يُكَذِّبُ النُّورَ
وَالظِّلُّ يَتَجَسَّدُ كَإِنْسَانٍ
وَالأَصْوَاتُ تُصَلِّي
لِسُكُوتٍ أَعْظَمَ مِنَ الوُجُودِ.
كَأْسِي…
لَيْسَ مِنْ زُجَاجٍ
بَلْ مِنْ لَحْظَةٍ نَقِيَّةٍ
شَرِبَتْنِي كُلِّي
تَرَكَتْنِي بِلَا اسْمٍ وَلَا وَعْدٍ
كَمَنْ وُلِدَ فِي حُلْمٍ.
كُنْتُ أَسْمَعُ صَوْتَهَا
تُهَمْهِمُ بَيْنَ فُقَاعَاتِ النَّبِيذِ:
لَا تَهْرُبْ أَنْتَ الدَّاخِلُ فِيَّ
وَأَنَا الَّتِي فِيكَ أُقِيمُ.
فَفَهِمْتُ…
أَنَّ الشَّرَابَ كَانَ صَلَاةً
وَالسُّكْرَ عِبَادَةً
وَالنِّسْيَانَ نُبُوءَةَ الرَّاحَةِ.
عِنْدَ ذَلِكَ…
تَعَلَّمْتُ كَيْفَ يُمْكِنُ لِلْكَأْسِ
أَنْ تَكُونَ مَعْبَدًا
وَلِلشِّعْرِ أَنْ يُصَلِّي
وَلِلْهَارِبِ أَنْ يَجِدَ نَفْسَهُ
فِي كَفِّ امْرَأَةٍ
تَسْقِيهِ مِنْ وَجْعِهِ.
(3)
الْمَرْأَةُ الَّتِي سَكَبَتْنِي
لَمْ تَكُنْ تُحِبُّ الشِّعْرَ
وَلَا القَصَائِدَ الطَّوِيلَةَ
وَلَا الأَسْمَاءَ الَّتِي تُشِيرُ إِلَى الأَبَدِ.
كَانَتْ تُحِبُّ الصَّمْتَ
تَسْكُنُهُ كَمَا تَسْكُنُ قَطْرَةُ النُّورِ فِي مِرْآةٍ.
لَمَّا جَلَسَتْ أَمَامِي
سَكَبَتْنِي كَمَاءٍ عَلَى جِلْدِهَا
فَصِرْتُ مَطَرًا يَكْتُبُهَا.
لَمْ أَقُلْ كَلِمَةً
وَلَمْ تَقُلْ كَلِمَةً
كُنَّا نُتَرْجِمُ النَّفَسَ بِالْعَيْنِ
وَنُوقِّعُ العَهْدَ عَلَى نَبْضٍ وَاحِدٍ.
قَالَتْ: لَا تَكْتُبْنِي شِعْرًا
اُكْتُبْنِي مَاءً يَنْزِلُ مِنْكَ.
فَفَهِمْتُ أَنَّهَا النَّصُّ الَّذِي كَانَ يَنْتَظِرُنِي
مُنْذُ خَلْقِ الحُرُوفِ.
سَكَبَتْنِي
فَأَضَاءَتْ
وَانْطَفَأَ فِي نَفْسِي كُلُّ مَا لَيْسَ هِي.
الآنَ…
كُلَّمَا رَأَيْتُ امْرَأَةً
أَسْكُبُ صَمْتِي عَلَيْهَا
عَلَّنِي أَرَاهَا مَرَّةً أُخْرَى
تَسْكُبُنِي.
شبكة فلسطين للأنباء – شفا الشبكة الفلسطينية الاخبارية | وكالة شفا | شبكة فلسطين للأنباء شفا | شبكة أنباء فلسطينية مستقلة | من قلب الحدث ننقل لكم الحدث .