2:46 مساءً / 4 أكتوبر، 2025
آخر الاخبار

أساطيل الحرية بين شراع الموت والحياة ، بقلم : سالي ابو عياش

أساطيل الحرية بين شراع الموت والحياة ، بقلم : سالي ابو عياش

منذ وقت مضى لم يعد البحر الأبيض المتوسط مجرد مياه تتقاطع فيها خطوط الدول، بل أصبح ميدان مواجهة بين إرادة الحياة ومحاولات التصدي للاحتلال، بين شراعات صغيرة تحمل مساعدات إنسانية وبين قوة عسكرية تهدف إلى كسر العزيمة وإرهاب النفوس.

كل محاولة من الأساطيل السابقة كانت هدفها واحد: كسر الحصار عن غزة، إيصال رسالة مفادها أن الحصار ليس نهاية الشعب الفلسطيني، وأن التضامن العالمي قادر على قلب المعادلة الرمزية لصالح الحق. بدأ كل شيء مع أسطول الحرية عام 2010، الذي شق طريقه عبر البحر عبر سفن صغيرة محملة بمساعدات إنسانية وصحية إلى قطاع غزة المحاصر. لم تكن مجرد سفن، بل كانت رسالة قوية تقول إن الأمل لا يُحاصر، وأن إرادة الشعوب في تقديم الدعم والحياة أقوى من أي جدار أو حصار، فبين الأمواج، وبين شراع وآخر، ترسخت رمزية التضامن الدولي، وأصبحت هذه الأساطيل رمزاً للصمود، شاهدة على قدرة الإنسان على مواجهة قسوة الاحتلال بروح الإصرار والحرية.

ولم تتوقف محاولات كسر الحصار عند حدود التاريخ، ففي أولى محاولات أسطول الحرية في هذه الحرب، كان الأسطول الإسباني الذي انطلق من إسبانيا محملاً بالمساعدات الإنسانية والصحية إلى غزة، لكنه واجه تصدياً إسرائيليا، حيث تم احتجاز السفن واعتقال النشطاء على متنها، في محاولة لإرهاب التضامن الدولي وإيقاف رسالة الحياة عن القطاع المحاصر.

لم تكسر هذه الإجراءات عزيمة المتضامنين، فتبع ذلك أسطول الصمود العالمي والمغاربي الذي انطلق من عدة دول، حاملًا معه رسائل الأمل والتحدي، رغم اعتراض القوات الإسرائيلية واعتقال نحو 450 ناشطا من أكثر من 40 دولة، بينهم ناشطون وناشطات بارزون، لتبقى الإرادة في إيصال المساعدات الإنسانية إلى غزة صامدة وقوية.

وجاء هذا الأسطول في ظروف مختلفة تماماً عن المحاولات السابقة. بعد عامين من حرب إبادة متواصلة في غزة، عشرات آلاف الشهداء، مئات آلاف الجوعى والمشردين، أصبح كل شراع يرفع رسالة سياسية وقانونية وإنسانية في الوقت نفسه. الأسطول لم يكن مجرد مبادرة لكسر الحصار، بل كان تحدياً للآلة الإسرائيلية، واختباراً لإرادة الشعوب في مواجهة عجز الأنظمة الدولية.

فمنذ اللحظة الأولى، ظهر التهديد الإسرائيلي واضحاً وصارماً. التهديدات المسبقة من قبل بن غفير ومحاولات احتجاز النشطاء في صحراء النقب، كانت رسالة أن إسرائيل تعتبر البحر امتداداً لنفوذها العسكري، وأن أي تحدٍ لها سيواجه بالقوة. لكن هذه المرة كان السياق مختلفاً: شعوب العالم ثارت في الشوارع، هتفت باسم غزة وأسماء النشطاء، وأثبتت أن التضامن الشعبي لم يعد شعارات على الورق، بل قوة ضغط حقيقية تواجه آلة الاحتلال.

الرمزية كانت واضحة في كل لحظة. الأسطول، حتى لو لم يصل فعلياً إلى شواطئ غزة، نجح في كسر الحصار النفسي والسياسي. لقد حرّك المياه الراكدة، وأعاد إلى العالم أن غزة ليست وحيدة، وأن الشعب الفلسطيني، رغم كل القصف والدمار، قادر على استدعاء الدعم العالمي وإرهاب الاحتلال الرمزي. كل شراع يرفع، كل نشطاء يبحرون، وكل صوت يهتف باسم غزة في الشوارع العالمية، هو إعلان أن الحرية والكرامة ليستا للبيع ولا للابتزاز.

ما يميز هذا الأسطول عن المحاولات السابقة هو تحديه المباشر للهيمنة الإسرائيلية على البحر الفلسطيني. إذ أن مجرد خروجها إلى المياه الإقليمية الفلسطينية هو انتصار رمزي وسياسي. هو إعلان أن الشعب الفلسطيني لا يقف وحيداً، وأن التضامن الدولي قادر على اختراق الجدار النفسي الذي حاول الاحتلال بناؤه لعقود.

الأسطول أيضاً كشف البعد النفسي للسلوك العدواني الإسرائيلي. كل محاولة للاعتراض، كل تهديد بالاعتقال أو الترحيل، كل حملة بروباغندا لإخفاء الحدث، كانت تهدف إلى ترهيب المشاركين وكسر إرادتهم. لكن الأسطول قلب المعادلة: الإرادة الشعبية والرمزية أثبتت أنها أقوى من القوة العسكرية، وأن التضامن الجماهيري قادر على تحويل الخوف إلى قوة معنوية وصمود.

التاريخ يذكر أن محاولات كسر الحصار كانت مستمرة منذ سنوات، لكن هذه المرة، الحرب المستمرة منذ السابع من أكتوبر وضعت الأسطول في سياق مختلف. لم تعد مجرد مهمة إنسانية، بل أصبحت رمزاً عالمياً للمقاومة ولرفض الحصار والإبادة. كل خطوة للأسطول هي رسالة إلى إسرائيل والعالم أن غزة ليست مجرد مدينة محاصرة، بل قلب القضية الفلسطينية النابض، وأن الشعب الفلسطيني سيستمر في الصمود مهما استمر القصف أو الحصار.

على مستوى القانون والسياسة، الأسطول يمثل ضغطاً دبلوماسياً حقيقياً على إسرائيل. أي محاولة اعتراض أو اعتقال للنشطاء لم تعد حدثاً عابراً، بل تصبح فضيحة دولية، تسجل في وسائل الإعلام العالمية وتثير موجات احتجاج شعبي وسياسي. هذا البعد يعكس أن البحر لم يعد ملكاً لمن يملك القوة العسكرية فقط، بل لمن يملك الإرادة الشعبية والرمزية.

حتى الرمزية وحدها كانت كافية لتغيير المعادلة. الأسطول حرّك المياه الراكدة، وأعاد التأكيد على أن غزة ليست وحيدة، وأن إرادة الشعوب يمكن أن تواجه القمع، وأن الحصار ليس نهاية المعركة. كل شراع يرفع، كل صوت يهتف باسم غزة في الشوارع العالمية، يثبت أن التضامن الشعبي ليس مجرد كلمات، بل فعل مقاوم حقيقي يمكن أن يحطم الصور النمطية عن العجز الدولي.

في النهاية، أساطيل الحرية بين شراع الموت والحياة. قد يُغرقها الاحتلال، قد يُحتجز النشطاء، لكن الرمزية التي تحملها هذه السفن، والضغط المعنوي الذي تفرضه على العالم، لا يمكن محوه. البحر لم يعد مجرد مياه، بل أصبح رمزاً للمقاومة، وشريان حياة للأمل الفلسطيني، وإعلان صريح أن الحياة أقوى من الموت، وأن الكرامة الفلسطينية لا تُهزم.

وختاماً، يظل السؤال مفتوحاً، لكنه ليس ضعيفاً، بل يحمل تحدياً كبيراً: هل ستنجح إرادة الشعب الفلسطيني ومساندة الشعوب الحرة في تحويل الرمزية إلى قوة فعلية تحمي الحقوق وتضع حداً للحصار، أم سيبقى البحر مسرحاً لتجارب القوة، بينما تستمر آلة الاحتلال في فرض سيطرتها؟ هذا الاختبار لم ينته بعد، لكن الأسطول أثبت أن الصمود لا يُقاس بالحجم أو بالأسلحة، بل بالإرادة والرمزية والشجاعة التي لا تُقهر.

شاهد أيضاً

محافظ نابلس غسان دغلس يشارك في تشييع جثمان شهيد الواجب الوطني الرائد لؤي جعفر

محافظ نابلس غسان دغلس يشارك في تشييع جثمان شهيد الواجب الوطني الرائد لؤي جعفر

شفا – شارك محافظ نابلس، غسان دغلس، اليوم السبت، في تشييع جثمان شهيد الواجب الوطني، …