11:48 مساءً / 2 سبتمبر، 2025
آخر الاخبار

الحاجة فتحية … ، وطن في امرأة ، بقلم : نغم نزار

الحاجة فتحية … ، وطن في امرأة ، بقلم : نغم نزار

الحاجة فتحية… وطن في امرأة ، بقلم : نغم نزار

في مساءٍ يفيض بالهيبة، جلست أتابع عبر شاشة تلفزيون فلسطين برنامج حكاية دار. وهناك… حيث الحروف تتحوّل إلى جذور مغروسة في الذاكرة، كانت الحاجة فتحية ياسين تروي سيرتها. لم تكن امرأة تسرد أحداث عمرها فحسب، بل كانت مدرسة تمشي على الأرض، تنثر من كلماتها دروسًا أثقل من الكتب، وأعمق من المحاضرات.


كانت تحكي عن حياتها، عن فقدها، عن صبرها، لكنني وأنا أستمع لم أرَ فيها مجرد امرأةٍ عانت؛ بل رأيت فيها وطنًا يعلّمنا كيف يكون الثبات، وكيف تنبثق الحكمة من رحم المعاناة .


كل جملة نطقت بها لم تكن قصةً تُروى، بل وصيةً تُحفر في القلب.


ومن بين ما قالت، وَقَفت عبارتها كجبلٍ شامخ في وجه المحن : “ لما الزمن بميل عليك ، ميل على دراعك… ما تميل على حدا.”


جملة تحمل في حروفها معنى الاستغناء عن العالم بأسره، والاحتماء بالله وبالنفس، جملة تزن ألف كتاب في الفلسفة والحكمة والصمود و الإرادة .


هي المرأة التي حملت الجبال على كتفيها، ولم تنحنِ.
هي التي واجهت الليل الطويل وحيدة، لكنها أضاءت الدرب لأحد عشر قلبًا صغيرًا كانوا كل ما تبقّى لها بعد رحيل زوجها في عمرٍ لم يرحم صغرها.


لم تطرق بابًا، ولم تمد يدًا، بل طرقت أبواب الصبر، ومدّت يدها إلى الله، وجعلت من كفاحها زادًا ومن دموعها نهرًا يسقي الحقول اليابسة. عاشت الويلات، حملت الأوجاع، شقيت وتعبت، لكن قلبها ظلّ أقوى من قسوة الأيام.


كانت الأم والمعلّمة رغم أُميتها ، كانت الأب والحارس، السند والرفيق. حملت رسالة زوجها الحي في وجدانها، ورسالة بيتها وأطفالها في كل نبضة من قلبها. لم يثنها الفقر، لم يكسرها التعب، لم تهزمها الوحدة. كل همّها أن تحافظ على أولادها، أن ترفعهم بعزيمة لا تُكسر، وأن تكتب من وجعها حكاية عزّ وصمود .


ولمّا تحدّثت عن الاجتياحات، كان المشهد يتجاوز الخيال. لم تخف على نفسها يومًا، بل كان خوفها الوحيد على أولادها الصغار. وحين كانت تدقّ الطبول الموحشة في قريتها، وتلوح غيوم الاحتلال على الأفق، كانت تذهب إلى شجرة الزيتون المزروعة في قاع بيتها. تلك الشجرة التي ورثت سرّ الأرض وصبر الدهور.


تمدّ يدها إلى التراب الطاهر من تحتها، تأخذ حفنةً بين كفيها، تقرأ عليها آيات من القرآن الكريم ، ثم تنثرها حول البيت… لتصبح الحدود دائرةً من إيمانٍ وتراب، كأنها حِمى سماوية تحيط بصغارها وتدفع عنهم بطش الجنود و طغيانهم .


لم تكن كلمات الحاجة فتحية مجرد ذكريات، بل كانت نارًا تضيء الدرب، وبخورًا من التراب والزيتون يحكي عن فلسطين التي لا تموت.


علمتني وهي تحكي أن الحياة ليست وجعًا فقط، بل مدرسة تُعطي وتُعلّم، وأن التراب إذا امتزج بالإيمان يصير حصنًا منيعًا.


هي لم تسرد لنا حكاية عابرة، بل تركت إرثًا من العِبر: أن نخاف على أوطاننا كما كانت تخاف على صغارها، وأن نميل على أذرعنا لا على أكتاف الغرباء، وأن نؤمن أن حفنة تراب من تحت زيتونة فلسطين قد تهزم جيشًا كاملًا، لأنها مشبعة بدم الشهداء وبآيات البقاء .


واليوم، حين ترى عوض الله في أبنائها وقد أصبحوا منهم المهندس والطبيب والمعلم والدكتور ، ترفع رأسها عاليًا، وتقول للعالم: هذا زرعي، وهذا عرقي، وهذه ثمرة صبري.


وكأن الله حين أخذ عنها السند، عوّضها في أبنائها ألف سند.
كل واحدٍ منهم كان لها وطنًا صغيرًا، ومرآةً ترى فيها ثمرة صبرها، وزهرة عزيمتها التي لم تذب يومًا.
وأخيرًا، في ختام هذا اللقاء، جاءت اللحظة التي هزّتني و هزت القلوب.


لحظة جمعت بين أمّ صنعت من صبرها تاريخًا، وبين ابنٍ كان شاهدًا حيًّا على تضحياتها.
حين وجّهت المذيعة إليه السؤال: “لو بدك توجّه كلمة لأمك، شو بتحكي؟”
تلعثم… ارتجف صوته… و ضاقت أنفاسه .. اختنق في حروفه قبل أن تخرج … فسبقته دموعه إلى وجنتيه قبل أن ينطق بحرف .
كانت العَبرة أثقل من أي كلمة، والدموع أسرع من أي مفردة.


لم يستطع أن يتحدث؛ لأن كل ما في قلبه أوسع من أن يُختصر بجملة، وكل ما حملته أمه من وجع وعطاء أكبر من أن يُترجم بكلام.


انفجر باكيًا، وانهارت الكلمات بين يديه كما انهار قلبه أمام جلال الموقف.
بكى لا عن ضعف، بل عن امتلاء و فخر … بكى لأنه أدرك أن كل الكلمات عاجزة، وكل العبارات صغيرة أمام أمٍ صنعت من المستحيل حياة، ومن الألم مجدًا.


كانت دموعه وسامًا على صدرها، وإقرارًا بأن هذه الأم لم تُنجب أبناءً وحسب، بل أنجبت رجالاً ونساءً يعرفون معنى الوفاء، ويحملون رسالتها ورسالة أبيهم في قلوبهم أينما ساروا.


ذلك المشهد لم يكن مشهد ابن واحد، بل كان لسان حال جميع إخوتِه، بل جميع أبنائها.


هم جميعًا أمام أمهم يُدركون أن اللغة عاجزة، وأن المفردات قاصرة، وأن الدموع وحدها هي اللغة الصادقة التي تستطيع أن تفي بعضًا من حقّها.


لقد بكى ابنها، ولم يستطع أن يوجّه كلمة، لأن صمته المبلل بالدموع كان أبلغ من أي خطاب، وأوفى من أي عبارة.
كان بكاؤه اعترافًا صريحًا بأن هذه الأم ليست مجرد والدة… بل هي الوطن، وهي الجدار، وهي سيدة الأرض التي علّمتهم أن الصمود رسالة، وأن التضحية قدر، وأن الحب الأبدي لا يُقال… بل يُبكى ..


الحاجة فتحية ياسين


هي ليست امرأة عادية أو حتى عابرة، بل أيقونة من أيقونات فلسطين، أمّ حقيقية صنعت من صبرها وطنًا، ومن عذابها كرامة، ومن دموعها مجدًا.


هي الأرض حين تُنبت بعد جفاف، هي الزيتونة التي صمدت أمام الرياح ، هي الأم التي صارت في أعين أبنائها قدوةً ورايةً وحكايةً خالدة،هي الأم الفلسطينية… التي علّمتنا أن الانتماء ليس شعارًا، بل تضحية وحياة كاملة .

شاهد أيضاً

اسعار المحروقات لشهر سبتمبر 9

اسعار المحروقات لشهر سبتمبر 9

شفا – نشرت الهيئة العامة للبترول الفلسطينية، اسعار المحروقات والغاز لشهر أيلول (9/2025)، على النحو …