5:42 صباحًا / 20 أبريل، 2024
آخر الاخبار

قصة قصيرة: واحدة بواحد بقلم : ميسون أسدي

بدا “شريف” هادئا حزينا حين زف لها بعضا من كلماته الجميلة: ضميني لأرتوي بحنانك يا زهرة الحياة، ليلة الأمس كنت معي في أحلامي وفراشي؟
ارتعشت أوصالها وثارت بها حواس الأنثى من جديد، ما الخطأ فيما يقوله هذا الحبيب، أمره غريب. لا تخونها ذاكرتها أبدا، فهو لا يحلم وإن راودته الأحلام لا يتذكر منها شيئا، فكيف يستحضرها في أحلامه، وكان على وشك إلغاء اللقاء بها والاحتفال بعيد ميلادها الثلاثين. نفضت مسحة الفهم عن محياها وابتسمت حتى تجذرت الابتسامة في مساماتها.

***
حاز “شريف”- أبو المنخرين اللذين يدلان على الحزم والعزم- على الشهادات العليا، في التفرس في نفوس النساء قاطبة. شهاداته لم يحملها من الجامعات والمدارس والدورات الاستكمالية، بل من العمل الشاق بين صناديق الخضروات في دكانه وفي الشوارع بين الناس تحت أشعة الشمس الحارقة من خلال تجارته سنوات طويلة.
اشتمّ “شريف” رائحة النساء اللواتي يعانين من اضطرابات تدق يأفوخهن، فإذا نظر بعيون إحداهن يعرف احتياجاتها. وكان على قدر وافٍ من الدهاء والمكر ليصطاد النساء، الجميلات والقبيحات، الفقيرات والغنيات، المتزوجات والعازبات، الفتيات والمسنات، المتدينات والعلمانيات. نال “شريف” وبصدق وسام الفنون المشكّلة في التلاعب وتدريب أكثر النساء عصيانًا. ففي قاموسه العاطفي من كلمات العشق أكثر مما في أي مخبز عتيق من صراصير.
الوقت حوالي العاشرة من صباح الاثنين، أخذت سميحة تعد العدة للاحتفال بعيد ميلادها الثلاثين، وقبل ثلاثين يوما من حلوله دونت ما ستقوم به في عيدها المميز. تربع “شريف” طبعا، على سلم أفضلياتها. اتصلت به ورجته أن تلتقي به لكي يكلل أنوثتها بما يغدق عليها من الحب والعطاء، وأن يقتني لها هدية تلائم المناسبة، لتنتقم من سنوات عزوبيتها الرتيبة. ستتخطى سميحة عامها الثلاثين، بعد أن باءت محاولاتها للزواج بالفشل الذريع رغم جهودها المضنية. فمنذ ثلاثين عاما وسميحة تحارب طواحين الهواء، كلّ دون كيشوت وهي لم تكل. لم تحقق ما راودها من أحلام يقظة أو منام. تطل عليها جدتها بحزن ولوم شديدين وتقول لها: صبايا أصغر منك سنا، ضحكن على الشباب “شلبكوهم وتزوجوهم”، إلا أنت عانس..
فتجاوبها سميحة: المشكلة يا جدتي، لا أريد أن اتلاعب، أريد شريكا مناسبا لي.
ما أن لمح “”شريف” سميحة تقترب من دكانه، حتى انتصبت أذناه، لأنها ستقع لا محالة في براثنه. جذبه الحزن المعشش بين ثناياها. هاتفها يوميا يسأل عن حالها. فاجأها بزيارته وبهداياه غير المتوقعة. شعر بها بكل حواسه، غمرها بكل ما تحلم. حقق لها ما تمنته حتى قبل أن تلفظه شفتاها. نفذ مطالبها، وسيطر عليها بفضل رجولته الفتية. بات هاجسا جميلا يؤرق مخدعها، ونال “”شريف” مأربه وتوثقت بينهما علاقة حميمة جدا.
صباح السبت، عيد ميلادها الثلاثون، الساعة السابعة مساء، بدأت سميحة تعد العدة للقاء حبيبها، انتظرته ومشاعرها متأججة، وكأنها تلتقي به للمرة الأولى، شعرت سميحة بانقطاع أنفاسه من الجهة الثانية للهاتف، خذلها بسكوته وهو يستمع إليها، فشعرت باستيائه، وانقبضت. قالت: ويحك أنسيت عيد ميلادي؟
طوال ليلة قبل اللقاء، لم يغمض لها جفن من فرحتها، وفوجئت في الصباح بأن الطبيعة لها رأي آخر بموعدها مع حبيبها. لعنت أنوثتها التي تدخلت رغما عنها، لتمنعها اضطراريا بألا تلقاه. فسمعت كلماته تتقد عشقا من جديد عبر الهاتف، ضاحكا ومداعبا: يأبى جسدك أن يحتفي بي يا زهرة الحياة.
انتابتها كوابيس رهيبة تلك الليلة. لم تسكن عيناها تحت جفونها لحظة واحدة. أفاقت على نفسها ودموعها بللت وجهها، فكتبت ما رأته في منامها حتى لا تنسى حلمها بحذافيره!
تأجل اللقاء بينهما أسبوعا آخر، ويوم قبل اللقاء، لم يتصل “شريف”. تصببت عرقا باردا، وكرامتها تأبى الاتصال به وتذكيره بعيدها الثلاثين. انتظرت اتصاله حتى وقت متأخر من الليل، لكن الهاتف بقي على جموده، تناولته واتصلت به وهي تتكلف الهدوء وتكاد الكلمات تتبعثر حروفها بين أسنانها..
– أنسيت غدي يا شريف؟ أنسيت عامي الثلاثين؟
بدا صوته باردا لاسعا كالصقيع. سمعت نبضاته تدق عاليًا، وبإمكانها التمييز بين الدقة الصحيحة والدقة المختلة، ردد: مشغول ومهموم ومنحوس. سيارتي معطلة ونفسيتي محطمة.
فأجابته: لأجل عينيك تتلاشى المسافات يا حبيبي، أحملك بسيارتي لنحلق عاليًا ونبلغ كبد السماء.

***
جلس بجانبها وشعره الأسود يشع بوميض بياض شيبِه، المتلألئ كالألماس. وضع راحة يده على ساقها، فأبطأت السيارة من نهبها للأرض وسارت تتجلى بتؤُدَة، فحبيبها بقربها ويده مرتاحة على ساقها، تعطرها رائحة أنفاسه. ستختنق من فرحتها، وتذوب في نشوتها في لحظات الحب المسروقة بين يدي حبيبها.
قصت عليه كابوسها: ضُبطنا معا في الكوخ البحري. وقفتُ عارية أمام أبي وأخوالي الثلاثة. غطيت عورتي بالوسادة.. دافعت عنك كما تدافع اللبؤة عن أشبالها، وأنت مختبئ ورائي كالأرنب. لم أعرف كيف استحضرت هذه القوة. تكلمت بطلاقة، شرحت لهم عن حقنا في الحياة، وحق المسامحة إذا وجب. دافعت عنك بكياني وروحي ونجحت بتهدئتهم. ووعدتهم إذا تركونا وشأننا سأتزوج ابن عمتي الذي يطلب يدي للزواج منذ عشرة أعوام.
أنصت إليها شريف، ومسح حزنا على محياه الوسيم، وتصنعت سميحة الضحك حتى ينسيا أمر حلمها. فتحت حقيبتها وأخرجت منها ثلاثة صناديق حمراء مبطنة ببطانة حمراء ومكللة بخيوط زرقاء، وأخرجت قلادة وسوارا وأقراطا من فضة، ليكلل بها عامها الثلاثين. قررت سميحة تكريم نفسها إذ لم تجد من يكرمها؟
ارتد شريف قليلا إلى الوراء، تندى جسده بالعرق، وشمخ عنقه بعض الشيء ورمش عدة مرات وكأنه يتحضر للرد على ما فاجأته به.. قال، ودموع التماسيح تترقرق في عينيه: سامحيني يا سميحة، يا زهرة حياتي.. لم يكن عندي وقت لأشتري لك هدية عيد ميلادك، دعيني أشتري لك هدية فيما بعد، أزينك بها.
قيد عنقها بقلادتها الفضية. تدلت الأقراط من أذنيها ووضع أسوارها بمعصمها، فسقطت بين بلاهة الحياة وعمى الأقدار كما أرادت، وكما خططت له في كوخهم البحري. لاطفتهما إحدى نسائم البحر الجميل. لم يقلقها شيء إلا مسحة الذكاء التي تزول بسرعة عن جبينها وتتصنع الغباء.
دق طبل الفضيلة عند شريف، طوقها بذراعيه، وعيناه تنذران بالشر، فاعترف لها بأنه يوم عيد ميلادها، عندما ثار جسدها بدورته الشهرية، ولم تستطع الحضور معه إلى الكوخ، وبعد أن كان قد هيأ زوجته وأولاده لغيابه عن البيت مدة نصف يوم، رافق إلى كوخهم البحري زهرة أخرى، تقترب من عامها الثلاثين.
أسندت سميحة ذقنها بكفيها، استمعت إلى صوت شريف الذي بدا كصرير الجنادب الرتيب. رفرف قلبها بين ضلوعها كالعصفور خفيفا، وأضاءت في عينيها تلك الشرارات ثم خبت.
قالت له متأنية: ومن قال لك انني كنت معذورة قبل أسبوع، لقد خلقت حجة معقولة حتى يتسنى لي الخروج مع شاب آخر تعرفت عليه حديثا…

شاهد أيضاً

6 شهداء في غارة إسرائيلية على حي "تل السلطان" برفح جنوب قطاع غزة

6 شهداء في غارة إسرائيلية على حي “تل السلطان” برفح جنوب قطاع غزة

شفا – استشهد 6 مواطنين في غارة نفذها طيران الاحتلال الإسرائيلي، الليلة، على حي تل …