11:37 مساءً / 25 يوليو، 2025
آخر الاخبار

قراءة نقديّة في نصّي نجوى غانم ، “ذراعكِ التي طوّقتني” و”أثقلُ من أيّ صوت” ، بقلم : الكاتبة والناقدة الفلسطينية غدير حميدان الزبون

قراءة نقديّة في نصّي نجوى غانم ، "ذراعكِ التي طوّقتني" و"أثقلُ من أيّ صوت" ، بقلم : الكاتبة والناقدة الفلسطينية غدير حميدان الزبّون

قراءة نقديّة في نصّي نجوى غانم ، “ذراعكِ التي طوّقتني” و”أثقلُ من أيّ صوت” ، بقلم : الكاتبة والناقدة الفلسطينية غدير حميدان الزبون


الكاتبة والنّاقدة الفلسطينيّة غدير حميدان الزبون تقرأ في نصوص نجوى غانم

أنْ تكتب نجوى من المنفى فذلك لا يعني الغياب، بل الحضور الأكبر، فهي ليست لاجئة في برلين، بل صوت غزة في جسد مؤقتٍ بألمانيا، لذلك فالنصوص التي تكتبها ليست محاولة للتذكّر، بل إعادة خلقٍ لكلّ ما يُطمس، فهي لا تروي الوجع، بل تستحضره، تُجسّده، وتُكثّفه حتى يصيرُ نصّها سلاحًا، وذراعًا، وصرخة.


إنّها تقاوم بقلمها في زمنٍ يُرمى فيه الأطفال من فوق أسِرّتهم إلى جهنم، وتُمحى المدن كما تُمحى الكلمات من دفتر التلميذ المهجّر، تتقدّم نجوى غانم لا كشاهدة على الركام، بل كمن تكتب منه، وتنفخ فيه نار المعنى حتى يُبعث.
نجوى ليست مجرّد كاتبة فلسطينية، بل هي شاهدةٌ تُعيد تسمية الأشياء كما يفعل الأنبياء في العزلات الكبرى.
من منفاها الألماني حيث يُفترض أن تبرد الذاكرة، أشعلت النار في اللغة، وأعادتنا إلى المعنى الأوّل، إلى الأم، إلى الطين، إلى الذراع، إلى الصوت.


في نصيها “ذراعُكِ التي طوّقتني” و”أثقل من أيّ صوت”، لا نقرأ الحكاية، بل ندخلها كما يدخل المصلّي في مقام النبوءة؛ هناك حيث تصبح الكلماتُ كائناتٍ حيّة، والصورةُ نداءً داخليًا يكتبنا قبل أن نكتبه.

أولًا: “ذراعُكِ التي طوّقتني” سيمياء الاحتضان ومجاز الذراع الملحمية.

في هذا النص القصير والمكثف، تمضي نجوى في بناء صوت داخليّ لطفل يتكلم من قلب الحدث، من بين الهدم والغبار، من تحت الأنقاض لا من فوق الورق.


هنا تتحوّل اللغة إلى شريط صوتيّ ينبض بالرجاء والرعب، الحنان والفزع.
“ضُميني بقوة… الهدير في أضلعي” هذه الجملة تُشكل العتبة السمعية الأولى للنص، ف”الهدير” ليس فقط صوت القصف، بل أيضًا صوت الداخل، صوت الفوضى النفسية، صوت الشهادة القادمة.
“ذراعكِ التي طوّقتني” ليست جملة توصيفية، بل جملة تعويذية، ف الذراع هنا تتحوّل من كونها عضوًا إلى رمز، فهي قيدٌ إيجابيّ يمنع السقوط، يحفظ الطفل من الانهيار، وهي سوار أمان ضدّ الموت، وضدّ الفقد، وكذلك هي وطنٌ مصغّر لآخر ما تبقّى من ملامح الأمان.


نجوى تفكّك الجسد الأمومي وتعيد صياغته بوصفه ملاذًا كونيًا، حيث تتحوّل الذراع إلى
قلعة، خيمة، حدود، جدار صدّ، نشيد، كفن، وحجر أساس لأسطورة.
إنه مجازٌ تأويليّ مزدوج، فكما تحفظ الذراع الطفل حيًا، فإن موت الطفل فيها يمنحها خلودًا أبديًا.
يبني النص إيقاعه الدرامي من خلال التوتر التدريجي الذي يتجسّد في طلب الضم “ضُميني، هدهديني”، وفي بداية ظهور الخطر “أتُنصتين للهدير؟”، وفي الانفجار الكارثي “يفكّون ذراعَكِ”.
وهنا تظهر قمة المفارقة، فبينما يُفترض أن ينقذ الإنقاذ الجسد، هو يقوم بفكّ الرمز الذي يحميه، فلا أحد أنقذ الطفل، بل الذراع فقط، وهي حين تُفكّ، لا تُفك من جسد بل من أسطورة.


ويزخر النّص بعدد من المفردات التي تضفي قداسة وهيبة من مثل، زمجرة، أطياف، تبتهل، حفّنا، وهمس يسمعه الله” فهذه المفردات ليست دلالية فقط، بل مقدّسة ومرعبة، إننا أمام مشهد شهادة صوفي، لا أمام مشهد استغاثة أرضية.
النص ليس خطابًا، بل صلاةٌ تحت الأنقاض، والطفل المتكلم هو تجلٍّ للصوت الفلسطيني، وهو أيضًا تجسيدٌ لملاكٍ أخيرٍ يهمس في حضن أمّه: “ضُميني، حطّمي أضلعي بيديك قبل الشظايا”.


هذه ليست مجرّد جملة، بل طقس انكسارٍ اختياريّ فيه تُستبدل شراسة الحرب بحنان الأم، وتتحوّل الذراع إلى حصنٍ أخير، والمفارقة هنا أنّ الطفل لا يخشى الموت، بل يخشى أن يموت بعيدًا عن الحنان، عن الملامح، عن الملجأ الحقيقي وهو صدر الأم.


وهنا تتجلى سيميائية الذراع، فهي ليست عضواً جسدياً، بل ذاكرةً، وطنًا، وصيّةً، قبرًا يُحمل كالنشيد.
فحين يقول الطفل “يفكّون ذراعَكِ التي طوّقتني”، فهو لا يصف لحظة إنقاذ، بل لحظة نزع لآخر ما تبقّى من فلسطين.
تلك الذراع كانت علمًا على جسد، حبلًا سرّيًا بعد الولادة، ظلًّا يحمي حتى في موته.


هكذا، تتحوّل الأم في هذا النص إلى أنثى ميثولوجية إلى عشتار جديدة، تُنقذ لا بالمعجزة، بل بالعناق.
وإنْ كانت الحرب قد نزعت الذراع فإنّ النصّ قد بعثها في الأبدية رمزًا يحرسنا من النسيان.

ثانيًا: “أثقل من أي صوت” سيميائية الغضب، والمكان بوصفه كائنًا حيًا.

إذا كان النّص الأول طقسًا جنائزيًا مضيئًا فإنّ هذا النص ملحمة عريّ ويقظة وغضب، فنجوى هنا لا تكتب المشهد بل تتقمّص الريح، وتجعلها شخصية تضادّ مع البطلة “حليمة”، ثم تعيد تشكيل البطولة نفسها في مواجهة الطبيعة، ثم في مواجهة القصف.
إنّ الريح التي كانت دومًا رمزًا للشتات تتحوّل إلى محرّض سردي، تشدّ الخيمة كما يشدّ المنفى الروح، وترقص بالأجساد كما ترقص الذاكرة على الحافة، لكنّ الانتصار هنا ليس بالصمود، بل بالبقاء في الحكاية.
“سكنت الأجساد المتفحّمة، خمدت صرخاتها، وتبعثرت بقايا الحياة بين الأطلال” كانت تلك الأجساد المتفحّمة جسد حليمة وأجساد أطفالها، والتي لم تستطع الريح أن تزحزحهم، لكنّ قذيفة واحدة مزّقتهم. هنا، لا تنهار الخيمة فقط، بل تنهار كل المسافات بين الموت والحكاية، بين الانفجار والصوت، بين الجسد والمكان.
“وصل الألم لديها حتى قلب المكان” هذه استعارة سيميائية، فيها يتجسّد “المكان” ككائن حيّ؛ لأنّ فلسطين ليست مساحة، بل روحٌ حيّة تتألم، ولذا حين يسقط الجسد يتلوّى المكان.

الصورة التي تختم بها نجوى هذا النص تكوّن كونشيرتو النكبة المعاصرة، حيث تعزف الآلام صوت الصمت سريعا وبطيئا وسريعا في أوركسترا كاملة تمنح النصّ بعدًا سماعيًا، حيث يغدو الصمت أثقل من أيّ صوت، لأنّه الصمت الذي يخلف الموت حين لا يترك حتى صراخًا خلفه.


“حليمة” في هذا النص ليست امرأة فقط، بل هي صخرة غزة التي لم تُزحها الريح، وهي أرملة المخيم اللاجئة التي صمدت أمام الدبابة، والإرادة الفلسطينية العارية إلاّ من عزيمتها.
هي شخصية تتجاوز الفرد لتُجسّد الأنثى الأسطورية في مواجهة الريح، والأم الحارسة في مواجهة القصف، كما أنّها تنتهي إلى الأنثى الثائرة التي تصفع الصّمت، وتصفع الريح.


إنها تكتب بالجسد المعذّب وبالقدَمِ المغروسة في الرمل، لتصبح حليمة مرآة لكلّ نساء المخيمات.
وقد نجحت نجوى في نقل الريح من طبيعتها المجازية إلى وضع درامي، فالريح ليست فقط ريحًا، بل ترميزٌ للشتات وللتهجير، ولزوال الخيمة، ولـلمصير الفلسطيني العاري تحت رحمة الريح والقصف والذي يشتعل ليصبح رمادا صارخا، لكنّ حليمة لا تهزمها الريح، بل تهزمها قذيفة الاحتلال هذه المفارقة تعزز الفكرة بأنّ الفلسطيني لا ينهار أمام الطبيعة، بل أمام التاريخ المسلّح.


“وأضحى الصمت أكثر ثقلا من أي صوت” هنا تُقلب معادلة الحرب، فالحرب كما تصورها القنوات هي “صوت”؛ لكن نجوى تقول للعالم ليست الصواريخ هي الأشدّ، بل الصورة التي لا تجد من يصرخها هي التي تقتل أكثر.
إنّها شعور السكون المرعب، حيث يتحوّل النص إلى لوحة مرئية، لا تحتاج حوارًا، والملحمة الفلسطينية التي تروى بصوت أنثويّ غاضب، ناعم، قاتل، والأسطورة الجديدة عن الأمهات الحارسات اللواتي لا يُهزَمن، والكتابة من رماد الوطن كفعل بعث لغوي ومكاني ووجودي.


نجوى لا تروي الحكاية؛ بل تُقيم طقسًا من الألم نتمسّك به كي لا نُمحى، ولا تُكتب نصوص نجوى من “المنفى”، بل من الجلد الفلسطيني المنذور للحنين.


تلك النجوى العظيمة لا تكتب لتوثّق، بل لتخلق سردية جديدة تقاوم خيانة التاريخ وبلادة الذاكرة العالمية.


ويمكن أنْ أقول بكلّ جرأة وثبات: نجوى في نصوصها هي الكاهنة التي ترتّل دم الأطفال على مذبح الحبر، والعرّافة التي ترى في ذراع الأم أطلسًا للوطن، وحاملة الرسالة التي تسير من حافة الركام إلى منابر العالم، كي تقول: نحن لم ننتهِ، بل كُتبنا من جديد.


وبهذا تكون “ذراعُكِ التي طوّقتني” و”أثقل من أي صوت” ليسا نصّين عابرين، بل وثيقتي بعثٍ فلسطينيّ بلغةٍ لم تندثر، وملحمتين من نور ودم ونداء لا ينقطع.


ولهذا، أقرأ نجوى لا لأحزن، بل لأقاوم.
أقرأها؛ لأنّ كل حرف في نصّها هو ذراعٌ تطوّقنا، وصوتٌ أثقل من أيّ قصف.

شاهد أيضاً

برصاص مستوطن

إصابة طفل برصاص مستوطن في قرية المغير شمال شرق رام الله

شفا – أصيب طفل برصاص مستوطن، مساء اليوم الجمعة، في قرية المغير، شمال شرق رام …